كتاب تحقيق النصوص ونشرها للشيخ عبدالسلام هارون

مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

أما بعد.. فإن تراث أي أمة هو هويتها وذاكرتها، وإهماله والتقصير فيه يعني تشويه حضارتها، وإن من أول أسس الاعتناء بتراث أمتنا العربية الإسلامية هو بعثه وإحياؤه، ولا يتأتى ذلك إلا على هدى ونور من العلم يصحبه وعي بأهمية التراث ونشره، مع ثقافة واسعة وضمير حي وأمانة متناهية، وصبر وجلد. وإن التخبط في تحقيق التراث على غير هدى لا ينتج إلا نسخا خطية جديدة ربما كانت أكثر تحريفا.

ولقد عرف أسلافنا المتقدمون قواعد التحقيق والتوثيق وتقييد العلم، وكان لعلماء الحديث النصيب الأكبر في إرساء هذه القواعد؛ حتى قال الدكتور شوقي ضيف: إنهم «لم يبقوا لنا ولا للمستشرقين شيئا مما يمكن أن يضاف بوضوح في عالم تحقيق النصوص»، وفي أوائل القرن الماضي نشط تحقيق النصوص التراثية ونشرها، فكان لزاما على العلماء وأئمة التحقيق أن يجمعوا قواعد التحقيق ويضعوها لتكون نبراسا وتذكارا لكل من يتصدى لهذا العمل الجليل، ولكي لا يدعوا عذرا لكل منتحل علما يعبث بالتراث ويتكسب به.

وكان أول كتاب عربي يطبع في هذا الشأن هو كتاب الشيخ عبد السلام محمد هارون: «تحقيق النصوص ونشرها» الذي نتعرف عليه عن قرب من خلال هذا البحث المتواضع.

موضوع البحث:

يتناول هذا البحث بالدرس والتحليل كتاب الشيخ عبد السلام هارون: «تحقيق النصوص ونشرها»، بالعرض والتحليل والنقد والمقارنة بينه وبين كتاب الدكتور صلاح الدين المنجد: «قواعد تحقيق المخطوطات»، وهو أول كتاب تلا كتاب الشيخ هارون في هذا المجال، وقد اقتضت طبيعة البحث إفراد ترجمة لكل من العالمين الجليلين، وتعريف مختصر بكتاب الدكتور المنجد.

أهمية البحث:

تكمن أهمية هذا البحث في أنه لا توجد- في حد علمي- دراسات سابقة خصت هذين الكتابين وجمعتهما معا بالعرض والتحليل والنقد، والمقارنة بينهما، وأن هذين الكتابين ها أهم ما ألف في بابهما، وأنهما لعالمين جليلين ذوي باع طويل وخبرة كبيرة في مجال تحقيق التراث ونشره.

منهج البحث:

يشتمل البحث على نقاط كثيرة، تقتضي طبيعة كل نقطة منها منهجا خاصا؛ ففي ترجمة كل من العالمين الجليلين وعرض كتابيهما استعملت المنهج الوصفي. وفي تحليل كتاب الشيخ هارون كان المنهج التحليلي الذي يعرض القضية ويحاول أن يفسرها ويدرس جوانبها المختلفة. وفي جانب النقد والمقارنة بين الكتابين كان المنهج النقدي والمنهج المقارن.

الطبعات المعتمدة لكتابي البحث :

اعتمدت في هذا البحث في كتاب الشيخ هارون: على الطبعة السابعة، مكتبة الخانجي، بالقاهرة، 1418هـ/1998م. وفي كتاب الدكتور صلاح الدين المنجد على نشرته الأولى في مجلة معهد المخطوطات، والطبعة السابعة، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1987م.

عرض فصول البحث:

قسمت البحث إلى:

مقدمة: تحدثت فيها عن أهمية التراث وخطر تحقيقه، وموضوع البحث، وأهميته، ومنهجه، والطبعات المعتمدة للكتابين موضوع البحث.

الفصل الأول: الشيخ عبد السلام هارون، وكتابه: «تحقيق النصوص ونشرها»:

المبحث الأول: ترجمة موجزة للشيخ عبد السلام هارون:

المطلب الأول: اسمه، ومولده، وتلقيه العلم، ومناصبه العلمية

المطلب الثاني: نشاطه العلمي، وجهوده في نشر التراث، ووفاته

المبحث الثاني: عرض الكتاب وتلخيصه:

المطلب الأول: تعريف موجز بالكتاب، وما ألف قبله وبعده، ومكانته

المطلب الثاني: عرض الكتاب وتلخيصه

الفصل الثاني: تحليل أهم مسائل الكتاب، ونقده:

المبحث الأول: تحليل أهم مسائل الكتاب، وبيان طريقة معالجتها

المبحث الثاني: نقد الكتاب:

أولا: مزايا الكتاب ومحاسنه

ثانيا: المآخذ على الكتاب

الفصل الثالث: مقارنة بين كتاب الشيخ هارون: «تحقيق النصوص ونشرها»، وكتاب الدكتور المنجد: «قواعد تحقيق المخطوطات»:

المبحث الأول: تعريف موجز بالدكتور المنجد، وكتابه، وما دار بينه وبين الشيخ هارون:

المطلب الأول: التعريف بالدكتور صلاح الدين المنجد

المطلب الثاني: التعريف بكتابه «قواعد تحقيق المخطوطات»

المطلب الثالث: ما دار بين الشيخين وأسبابه

المبحث الثاني: المقارنة بين الكتابين:

أولا- أوجه الاتفاق

ثانيا- أوجه الاختلاف

الخاتمة

المصادر والمراجع

الفهارس

والله من وراء القصد،،،

الفصل الأول

الشيخ عبد السلام هارون، وكتابه: «تحقيق النصوص ونشرها»

المبحث الأول ترجمة موجزة للشيخ عبد السلام هارون([1])

المطلب الأول: اسمه، ومولده، وتلقيه العلم، ومناصبه العلمية:

هو الباحث الأديب شيخ المحققين عبد السلام محمد هارون. ولد في الإسكندرية عام 1327هـ/1909م، ونشأ في بيت كريم من بيوت العلم؛ فجده لأبيه هو الشيخ هارون بن عبد الرازق عضو جماعة كبار العلماء، وأبوه هو الشيخ محمد بن هارون كان يتولى- عند وفاته- منصب رئيس التفتيش الشرعي في وزارة الحقانية (العدل)، وعمه هو الشيخ أحمد بن هارون الذي يرجع إليه الفضل في إصلاح المحاكم الشرعية ووضع لوائحها، أما جده لأمه فهو الشيخ محمود بن رضوان الجزيري عضو المحكمة العليا.

قد عني أبوه بتربيته وتعليمه، فحفظ القرآن الكريم في العاشرة من عمره، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، والتحق بالأزهر عام 1921م حيث درس العلوم الإسلامية والعربية. ثم التحق بتجهيزية دار العلوم في عام 1924م، وتلمذ فيها للشيخ محب الدين الخطيب([2])، ثم نال منها (البكالوريا) في عام 1928م، ثم أتم دراسته في دار العلوم العليا في عام 1932م، بعدها عين مدرسا بالتعليم الابتدائي.

في عام 1945م عين مدرسا أول بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية؛ وهي المرة الوحيدة التي ينقل فيها معلم من الابتدائية إلى التدريس بالجامعة.

وفي عام 1950م نقل أستاذا مساعدا بكلية دار العلوم بالقاهرة، ثم عين رئيسا لقسم النحو بها في عام 1959م. وفي عام 1966م سافر إلى الكويت وأسهم في تأسيس جامعتها، وأسس قسم اللغة العربية وقسم الدراسات العليا بها، ورأسهما حتى عام 1975م.

وفي عام 1969م اختير عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ثم انتخب أمينا عاما للمجمع في عام 1984م. حصل على الجائزة الأولى لمجمع اللغة العربية في التحقيق والنشر عام 1950م، وعلى جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي عام 1981م.

المطلب الثاني: نشاطه العلمي، وجهوده في نشر التراث، ووفاته:

بدأ الشيخ عبد السلام هارون نشاطه العلمي في سن مبكرة؛ إذ ظهر له تحقيق كتاب «متن الغاية والتقريب» للقاضي أبي شجاع الأصفهاني؛ بضبطه وتصحيحه ومراجعته في عام 1925م وهو في السادسة عشرة من عمره، وقد قرر هذا الكتاب رسميا على الطلاب آنذاك، وكتب عليه: «ضبط وتصحيح ومراجعة الشيخ عبد السلام محمد هارون»([3])، ثم ظهر له تحقيق أول جزء من «خزانة الأدب للبغدادي» في عام 1927م؛ وهو في التاسعة عشرة، وهي السنة التي نادى فيها بإنشاء جمعية الشبان المسلمين، ثم أكمل أربعة أجزاء من الخزانة وهو طالب بدار العلوم.

وفي سنة 1943م اختاره الدكتور طه حسين ليكون عضوا بلجنة إحياء تراث أبي العلاء المعري، مع الأساتذة: مصطفى السقا، وعبد الرحيم محمود، وإبراهيم الإبياري، والدكتور حامد عبد المجيد؛ وقد أخرجت هذه اللجنة في أول إنتاجها مجلدا ضخما عنوانه: «تعريف القدماء بأبي العلاء»، أعقبته بخمسة مجلدات من شروح ديوان «سقط الزند» للتبريزي، والبطليوسي، والخوارزمي. أشرف على أكثر من 100 رسالة جامعية لدرجتي (الماجستير) و(الدكتوراه).

والشيخ هارون يعد من أكبر المحققين المثابرين في عصره وأشهرهم؛ لغزارة إنتاجه في التحقيق؛ إذ حقق نحو مئة وخمسة عشر كتابا، كما أن له مؤلفات كثيرة تزيد على اثني عشر كتابا، وبعض كتبه وتحقيقاته يقع في مجلدات، كما أن له بحوثا ومقالات متناثرة في المجلات والدوريات العربية. ويعده بعض الباحثين في المرحلة الرابعة من مراحل تحقيق التراث العربي عموما وفي مصر خصوصا، بعد مرحلة المطبعة الأهلية ومطبعة بولاق، ومرحلة الناشرين النابهين، ومرحلة دار الكتب المصرية([4]).

تأثر الشيخ هارون بابن عمته العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر، وتعاونا معا في تحقيق عدد من كتب التراث؛ وقال الشيخ عن ابن عمته: «كان أستاذي وكنت أستاذه».

عمل الأستاذ الشيخ هارون طيلة عمره على إحياء التراث الإسلامي؛ فجلا صفحات مضيئة من ذخائر تراث أمتنا الإسلامية ونفائسه، ومن أهم ما حقق وألف ما يلي:

أ- من كتبه المحققة:

الاشتقاق، لابن دريد (في مجلدين)- إصلاح المنطق، لابن السكيت (بالاشتراك مع الشيخ أحمد شاكر)- الأصمعيات (بالاشتراك مع الشيخ أحمد شاكر)- تهذيب اللغة، للأزهري (المجلدان الأول والتاسع)- جمهرة أنساب العرب، لابن حزم- خزانة الأدب، للبغدادي (11 مجلدا)- رسائل الجاحظ (4 مجلدات)- شرح القصائد السبع الطوال، لابن الأنباري- شرح ديوان الحماسة، للمرزوقي (4 مجلدات)- فهارس تهذيب اللغة، للأزهري (مجلد ضخم)- كتاب البيان والتبيين، للجاحظ (4 مجلدات)- كتاب الحيوان، للجاحظ (8 مجلدات)- كتاب سيبويه (5 مجلدات)- مجالس العلماء، للزجاجي- مجالس ثعلب (مجلدان)- معجم مقاييس اللغة، لابن فارس (6 مجلدات)- المفضليات (بالاشتراك مع الشيخ أحمد شاكر)- نوادر المخطوطات (مجلدان).

ب- من كتبه المؤلفة:

الأساليب الإنشائية في النحو العربي- تحقيق النصوص ونشرها- تحقيقات وتنبيهات في معجم لسان العرب- قطوف أدبية- قواعد الإملاء- معجم شواهد العربية (مجلدان).

وخلاصة ما يقال في الشيخ عبد السلام هارون- كما يقول الدكتور الطناحي-: «أنه لم يخط أحد في التراث سطرا إلا ولهذا الرجل عليه منة؛ وذلك أنه لا تكاد تجد قائمة مراجع تراثية إلا وفيها من تحقيقات شيخنا»([5]).

وفاته:

توفي الشيخ عبد السلام هارون رحمه الله تعالى في القاهرة، في شهر إبريل سنة 1988م، بعد حياة علمية حافلة، وخدمة للتراث جليلة، وبعد وفاته أصدرت جامعة الكويت كتابا عنه بعنوان: «الأستاذ عبد السلام هارون.. معلما، ومؤلفا، ومحققا».

المبحث الثاني عرض كتاب «تحقيق النصوص ونشرها» وتلخيصه

المطلب الأول: تعريف موجز بالكتاب، وما ألف قبله وبعده، ومكانته:

أولا- تعريف موجز بالكتاب، وطبعاته، وسبب تأليفه:

بدأت فكرة تأليف هذا الكتاب لدى الشيخ هارون منذ عام 1950م، بعد أن حصل على الجائزة الأولى لمجمع اللغة العربية في التحقيق والنشر عام 1950م، وظل يعاود الكتابة فيه إلى أن اقترح عليه إلقاء محاضرات في التحقيق على طلبة الماجستير بكلية دار العلوم؛ فكان هذا الكتاب من تلك المحاضرات. طبع الكتاب طبعته الأولى عام 1374هـ/1954م، ثم طبعته الثانية في 1385هـ/1965م، ثم الثالثة مصورة عن الثانية، ثم الرابعة في عام 1396هـ/1976م، وبها زيادات وتنقيحات ظهرت له في أثناء عمله الجامعي وأعماله الخاصة في التحقيق وغيره، ثم لم يطبع الكتاب إلا بعد وفاته، رحمه الله تعالى.

وقد تقدم في ترجمة الشيخ هارون أنه بدأ نشاطه العلمي- خاصة في مجال تحقيق التراث- في سن السادسة عشرة من عمره في عام 1925م، وقد تواصل نشاطه وإنتاجه الغزير حتى ألف هذا الكتاب عام 1954م؛ أي: أنه ألفه بعد مضي نحو ثلاثين سنة على أول تجربة له في التحقيق، وإذا أخذنا في الحسبان أن أولى تجاربه قد تقبلها العلماء بقبول حسن- دل على ذلك أنها قررت رسميا على طلاب المعاهد الأزهرية- عرفنا أن هذه البداية سبقتها بلا شك إرهاصات ومقدمات وتدريبات وتجارب أخرى، ويدل ذلك على أنه بدأ معالجة أمر التحقيق قبل بلوغه السادسة عشرة؛ ومنذ ذلك الحين وهو يحقق ويدقق، ويخرج لنا من درر التراث ومن كتب الجهابذة الأفذاذ؛ كـ: خزانة الأدب، والبيان والتبيين والحيوان للجاحظ، ومجالس ثعلب، ومقاييس اللغة لابن فارس، والمفضليات، وغيرها؛ يقول في مقدمة كتابه: «وأما بعد، فهذه ثمرة كفاح طويل، وجهاد صادق، وتجارب طال عليها المدى، ساعفتها عين طلعة ناظرة إلى ما يصنع صاحبها وما يصنع الناس، فكان له من ذلك ذخر أمكنه أن يفتشه ويبحث في جنباته، ليرى وجه الحق فيما يرى، وأن يؤلف من ذلك كتابا يعتز به ويغتبط اغتباطا؛ إذ هو «أول كتاب عربي» يظهر في عالم الطباعة معالجا هذا الفن العزيز: فن تحقيق النصوص ونشرها»([6]).

وهذا يعني أنه ألف هذا الكتاب بعد تجارب شخصية كثيرة وجهد مضن في فن تحقيق التراث، مضيفا إليها تجارب شيوخه وأقرانه وزملائه.

ثانيا- ما ألف قبله في مجاله، ومكانته:

لقد عرف العرب المسلمون الأقدمون- منذ فجر الإسلام- أسس التحقيق العلمي وقواعده؛ من جمع النسخ ومعارضة الأصول وغير ذلك، وبلغ الاهتمام بقواعد كتابة العلم وضبطه والتحقيق العلمي للنصوص ونقدها، ذروته، لدى علماء الحديث؛ الذين اعتنوا بجمع الحديث الشريف وتوثيقه ونقده؛ وألفوا في ذلك كتبا ضمنوها تلك القواعد؛ ومن هذه الكتب:

1- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي؛ للرامهرمزي (ت360هـ).

2- الكفاية، في علم الرواية؛ للخطيب البغدادي (ت463هـ).

3- الجامع، لأخلاق الراوي وآداب السامع؛ له.

4- الإلماع، في معرفة أصول الرواية وتقييد السماع؛ للقاضي عياض (ت544هـ).

5- معرفة أنواع علوم الحديث؛ لابن الصلاح= مقدمة ابن الصلاح (643هـ).

6- تذكرة السامع والمتكلم، في آداب العالم والمتعلم؛ لابن جماعة (ت733هـ)

7- المعيد، في أدب المفيد والمستفيد؛ للعلموي (ت981هـ).

وقد طبق المحدثون المتقدمون تلك القواعد تطبيقا عمليا، وأبرز مثال على هذا: ما فعله الحافظ اليونيني (ت701هـ) في إخراج صحيح البخاري مقابلا على أصح النسخ وأوثق ما وصل إليه من نسخ الصحيح، وبجواره علامة النحو ابن مالك الأندلسي (ت761هـ) يسمع ويضبط على ما اقتضته الرواية والعربية، ويثبتون فروق النسخ، وقد أثبت اليونيني وابن مالك ذلك في ثبت سماعهما للكتاب([7]). يقول الدكتور شوقي ضيف- رحمه الله- معلقا على ذلك: «وإخراج اليونيني لصحيح البخاري على هذا النحو، يدل بوضوح على أن أسلافنا لم يبقوا لنا ولا للمستشرقين شيئا مما يمكن أن يضاف بوضوح في عالم تحقيق النصوص»([8]).

ثم غاب عن المسلمين تراثهم- أو غيبوا هم عن تراثهم- لأسباب كثيرة وبطرق متعددة([9])، حتى نقل المستشرقون في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي أصولهم العلمية في إحياء الآداب اليونانية واللاتينية وطبقوها في نشر ما نشروه من تراثنا، ولم يكن لهم مؤلف خاص في ذلك حتى ألف المستشرق الألماني (برچستراسر) محاضرات في هذا الفن ألقاها على طلبة الماجستير بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة في عام 1931م. وبعده تحدث الدكتور محمد مندور بإيجاز عن قواعد نشر النصوص الكلاسيكية في مجلة الثقافة، القاهرة، 1944م، في العددين 277 و280؛ في نقده لكتاب «قوانين الدواوين» لابن مماتي، ثم نشر المقالين في كتابه «في الميزان الجديد»([10])

ثم في عام 1945م ألف المستشرقان الفرنسيان بلاشير وسوفاجيه- تحت رعاية جمعية (جيوم بوده)- كتيبا بالفرنسية عن «قواعد نشر النصوص العربية وترجمتها»، لكنه يشتمل على قواعد مختصرة، وأكثره في قواعد ترجمة الكتب العربية إلى الفرنسية. وفي المجمع العلمي العربي بدمشق وضعت اللجنة الخاصة بنشر كتاب «تاريخ مدينة دمشق» لابن عساكر، قواعد موجزة للنشر في مقدمة الجزء الأول منه، ونشر في عام 1951م. كما تحدث الدكتور إبراهيم بيومي مدكور عن بعض قواعد النشر في مقدمته لكتاب «الشفا» لابن سينا، في عام 1953م.

ثم في عام 1954م توج الشيخ عبد السلام هارون تلك الجهود السابقة، بتأليفه كتابه: «تحقيق النصوص ونشرها»([11]). وهو أول كتاب عربي يطبع في هذا المجال في العصر الحديث؛ إذ إن محاضرات المستشرق الألماني (برچستراسر) لم تطبع وترى النور إلا في عام 1969م بعناية الدكتور محمد حمدي البكري، وقد حاول الشيخ (جاهدا) أن يطلع عليها فـ«لم يوفق» لذلك([12])، كما أن ما بعد (برچستراسر) لم يعد كونه قواعد مختصرة أو مناهج خاصة بتحقيق كتب معينة أو نقدها.

وقد استقى الشيخ هارون مؤلفه هذا من قواعد المتقدمين ومن تجاربه الشخصية وتجارب أقرانه ومن سبقوه في هذا المجال.

ثم ألف الدكتور صلاح الدين المنجد كتابه «قواعد تحقيق المخطوطات» عام 1955م، وسيأتي الحديث عن الكتاب ومؤلفه إن شاء الله تعالى([13])

وتوالى التأليف في هذا المجال، بكتب خاصة أو مقالات في دوريات أو فصول في داخل كتب، لكن لم تخرج معظم هذه التأليفات عما وضعه الشيخ هارون والدكتور المنجد، وتنحصر إضافاتها في الأمثلة الخاصة بكل مؤلف.

وكما يعد كتاب الشيخ هارون أول كتاب طبع في بابه، يعد الشيخ هارون رائدا في تقعيد تحقيق النصوص ونشرها([14]).

المطلب الثاني: عرض الكتاب وتلخيصه:

بدأ الشيخ هارون كتابه في طبعته الأولى بمقدمة موجزة- في ثلاث صفحات- تحدث فيها عما تعانيه الأمة الإسلامية والعربية من دعاة الغزو الفكري ومحاولاتهم لنبذ التراث وإلغاء الإعراب من اللغة العربية، وأن هذه الدعوات لم تلق رواجا إلا عند من سماهم «أرقاء التفكير»، مؤكدا أن كل فكرة علمية غير مغرضة جديرة بالاحترام، مشيرا إلى وجوب النهوض بعبء نشر التراث وتجليته، مناديا بأن تلتزم الجامعات تكليف الطلاب إعداد رسائلهم الجامعية في تحقيق التراث، ذاكرا أنه فكر في تأليف هذا الكتاب قبل خمس سنوات من طباعته، وأنه كان قد ألقى محاضرات في هذا الفن على طلبة الماجستير بكلية دار العلوم، وأنه (لم يوفق) للاطلاع على المحاضرات التي ألقاها المستشرق (الفاضل) (برچستراسر) في كلية الآداب بجامعة القاهرة.

وفي مقدمة الطبعة الثانية ذكر أثر كتابه في البلاد العربية وعند المستشرقين، وكان أكثر هذه المقدمة في ذكر ما وقع بينه وبين الدكتور صلاح الدين المنجد الذي لم يصرح الشيخ هارون باسمه. وسيأتي الكلام على ما دار بينهما لاحقا إن شاء الله([15]).

وفي مقدمة الطبعة الرابعة ذكر أن الطبعة الثالثة كانت صورة من الثانية، وأنه أضاف في الرابعة بعض حقائق وقضايا وتنقيحات ظهرت له في أثناء عمله الجامعي ودراسته الخاصة، مثنيا على الناشر محمد أمين الخانجي وولده محمد نجيب وجهودهما في نشر كتب التراث([16]). وبعد ذلك تأتي مادة الكتاب تحت عناوين متتابعة؛ بدأها بثلاثة عناوين رئيسة هي كالتمهيد لموضوع الكتاب؛ وهذه العناوين التمهيدية هي

1- كيف وصلت إلينا الثقافة، وتحته عنوانان فرعيان: أول نص مكتوب، وأوائل التصنيف: وتحت هذا العنوان الرئيس وفرعيه، تحدث الشيخ عن طرق انتقال الثقافة عند العرب، وأن أولها كان الرواية الشفهية، ثم بدأت تنتشر الكتابة بظهور الإسلام، وأن أول كتاب مكتوب بالعربية وصل إلينا هو القرآن الكريم، ثم لما اتسعت رقعة الإسلام واختلط العرب بالعجم، وفسد اللسان العربي؛ ظهرت الحاجة إلى وضع النحو والتأليف فيه لإقامة ما اعوج من اللسان العربي، ثم دون الحديث الشريف بإذن الخليفة عمر بن عبد العزيز بعد استخارته الله تعالى، حتى إذا جاء العصر العباسي توسع الناس في تصنيف الحديث وغيره من العلوم الإسلامية.

2- الورق والوراقون، وتحته عنوان فرعي هو: الوراقون: وتكلم تحت هذا العنوان وفرعه عن المواد التي كان يكتب عليها في القديم وعن تطورها حتى وصلت إلى الورق (الكاغد)، ثم تحدث عن الوراقين وكثرتهم ودورهم في نشر الثقافة وأنهم كانوا يقومون بما تقوم به دور النشر الآن.

3- الخطوط: وتحدث تحت هذا العنوان باختصار شديد عن تطور الخط العربي منذ القرون الثلاثة الأولى، وأن أوله الخط الكوفي، وأوضح الفرق بين الخط المشرقي والخط الأندلسي- الذي تطور إلى الخط المغربي- في الشكل والاصطلاحات([17]).

بعد ذلك أخذ في الحديث فيما يخص تحقيق المخطوطات مبتدئا بالكلام على الأصول الخطية، ومنازلها، وكيفية جمعها، وأهمية فحصها، وكيفيته:

4- أصول النصوص: أعلى النسخ هي التي وصلتنا كاملة وتحمل عنوان الكتاب واسم المؤلف، ويكون قد كتبها بنفسه أو أملاها أو أجازها، وتسمى النسخة الأم، تليها النسخة المأخوذة منها، ثم فرعها، ثم فرع فرعها، وإذا عدم الأصل الأول فإن أوثق النسخ الأخرى يرتقي إلى مرتبته. وذكر أن من الأصول ما يكون مضمنا في ثنايا كتب أخرى، عندما ينقل أحد المؤلفين في كتابه كتبا صغيرة أو فصولا من كتب كبيرة لمؤلفين آخرين، والأصول المطبوعة التي فقدت أصولها أو تعذر الوصول إليها تعد أصولا ثانوية بشرط الاطمئنان إلى محققها أو ناشرها. كما ذكر أن المصورات من الأصول تكون بمنزلة أصولها. ثم تحدث عن المسودات والمبيضات وكيف يميز المحقق المسودة من المبيضة، وأنه إن تأكد للمحقق أن المؤلف لم يخرج غير المسودة، كانت هي الأصل الأول. وإذا وجدت المبيضة مع المسودة كانت المسودة أصلا ثانويا استئناسيا. وأكد على أن المؤلف قد يصدر كتابه أكثر من مرة، ويقع أكثر ذلك في كتب الأمالي وكتب المجالس، كما أنه قد يؤلف الكتاب نفسه بأكثر من صورة؛ مختصرا ومتوسطا ومطولا. ثم تحدث عما يجب عمله عند تجمع مجموعة من النسخ ليس شيء منها للمؤلف أو منقولا عن نسخة المؤلف، أو فرعها، أو نحو ذلك، ذاكرا أن المبدأ العام: أن تقدم النسخة الأقدم تاريخا، ثم التي عليها خطوط العلماء، إلا أن تكون الأقدم سيئة ومحرفة، فتقدم حينئذ الأحدث إذا كانت متقنة. وكذلك قد توجد نسخة عليها خطوط علماء وأخرى خالية منها لكنها أصح متنا وأكمل مادة، ويظهر كل ذلك من دراسة النسخ، ويعتمد على حذق المحقق. مؤكدا أن على دارس النسخة التنبه عند دراسة التاريخ لما قد يحدث فيه من تلبيس النساخ عمدا أو جهلا. - كيف تجمع الأصول: لا يمكن القطع بإمكانية الحصول على كل نسخ الكتاب الواحد إلا على وجه التقريب؛ لأنه ليس أمام الباحث إلا أن يجتهد طاقته ويرجع إلى فهارس المكتبات والكتب المصنفة في هذا الشأن على ما بها من قصور وتقصير، إلى أن يغلب على ظنه أنه حصل قدرا صالحا من النسخ.

- فحص النسخ: على دارس النسخة الأصلية من المخطوط أن يدرس الورق لتحقيق عمرها، ولا ينخدع بالتواريخ التي قد تكون مزيفة، ولا بآثار العث والأرضة؛ لأنها ليست دلالة قاطعة على القدم، وكذلك عليه أن يدرس خطها جيدا واطراده في النسخة كلها، ويدرس المداد التي كتبت به، ويدرس أيضا عنوان المخطوط وما على المخطوط من إجازات وسماعات وتملكات وقراءات وتعليقات وغيرها، وأن ينظر في أبواب الكتاب وفصوله وأجزائه حتى يستوثق من كمال النسخة وصحة ترتيبها، منتبها إلى ما قد يثبت في أواخر الصفحات اليمنى من التعقيبات، وينظر في خاتمة الكتاب لعله كتب فيها اسم الناسخ وتاريخ النسخ وتسلسل النسخة.

5- التحقيق: «الكتاب المحقق: هو الذي صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصورة التي تركها مؤلفه»؛ هكذا عرف الشيخ هارون التحقيق والكتاب المحقق.

- تحقيق العنوان([18]): قد تخلو النسخة من العنوان؛ لفقد الورقة الأولى، أو لانطماس أصاب العنوان أو تغيير بسبب جهل أو تزييف متعمد. ولتحقيق العنوان يرجع إلى كتب المصنفات كـ«فهرست النديم» أو كتب التراجم، أو بالعثور على نصوص الكتاب منسوبة إليه في كتاب آخر، أو يكون المحقق ذا معرفة بأسلوب المؤلف وأسماء ما ألف من الكتب.

- تحقيق اسم المؤلف: يمكن الاهتداء إلى اسم المؤلف إذا تحققنا من عنوان الكتاب، بمراجعة فهارس المكتبات وكتب المصنفات وكتب التراجم، على أن يحذر تشابه عناوين الكتب، ويساعد في تحقيق اسم المؤلف أيضا العثور على بعض نصوص كتابه منسوبا إليه في كتاب آخر، ولا يكتفى بمرجع واحد في تحقيق اسم المؤلف خشية اتفاق بعض الكتب على تحريف بعينه.

- تحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه: تعد الاعتبارات التاريخية من أقوى المقاييس التي يكتشف بها صحة نسبة الكتاب إلى مؤلفه، فالكتاب الذي فيه أخبار تاريخية تالية لعصر المؤلف تنفي صحة نسبة ذلك الكتاب إليه.

- تحقيق متن الكتاب: «ومعناه أن يؤدى الكتاب أداء صادقا كما وضعه مؤلفه كما وكيفا بقدر الإمكان» لا أن نغير أسلوب المؤلف عاليا كان أو نازلا، أو نصحح الخطأ العلمي الذي يقع فيه المؤلف، أو نبسط عبارة مختصرة أو العكس؛ فتحقيق المتن أمانة؛ لأن الكتاب حكم على المؤلف وعصره، والذي ينبغي: التنبيه على الأخطاء في الحاشية، إلا من سمح بتصرف القراء في مؤلفه وهو منهج نادر. أما الشواهد القرآنية فلا بد أن توضع في نصابها، وينبغي أن يستشعر المحقق الحذر في تحقيق الآيات، وإبقاء النص القرآني محرفا كما هو فيه مزلة للأقدام، وخطر القرآن أعظم من أن يجامل فيه مخطئ، وهي مسألة قديمة، وقد سمى ابن الصلاح ترك التحريف في القرآن غلوا في اتباع اللفظ. ولتحقيق الآيات لا يكتفى بالمصحف المتداول، بل لا بد من الرجوع إلى كتب القراءات المتواترة والشاذة وكتب التفسير خاصة ما يعنى منها بذكر القراءات، ويجوز ترك الواو أو الفاء من أول الآية أو من أول موضع الاستشهاد اكتفاء به. أما نصوص الحديث النبوي فتختبر بعرضها على كتب الحديث وتخريجه، ولتعدد رويات الحديث يتحمل المؤلف أمانة روايته فنبقيها كما هي، ثم نبين في الحاشية ضعف روايته أو قوتها. وكذلك تخرج بقية النصوص المضمنة في الكتاب؛ كالأشعار والأمثال ونحوها، من مراجعها، وتلتزم رواية المؤلف خاصة إذا بنى عليها حكما.

- خطر تحقيق المتن: التحقيق أمر جليل يحتاج جهدا وعناية أكثر من التأليف.

- مقدمات تحقيق المتن:

أ- التمرس بقراءة النسخة لمعرفة اصطلاحات الناسخ في الرسم والضبط والإهمال والإعجام والكشط والمحو والحذف واللحق والإضافة والتضبيب وغيرها، وطريقته في كتابة الأعداد والاختصارات، ثم ذكر الشيخ طائفة صالحة من الرموز التي يكثر استعمالها.

ب- التمرس بأسلوب المؤلف، وما له من اصطلاحات ورموز واختصارات ولوازم كتابية.

ج- الإلمام بموضوع الكتاب.

د- المراجع العلمية: 1- كتب المؤلف نفسه. 2- ما له علاقة بالكتاب من المؤلفات: كالشروح والمختصرات وغيرها. 3- الكتب التي اعتمدت في تأليفها على الكتاب. 4- الكتب التي استقى منها المؤلف. 5- الكتب المعاصرة للمؤلف وتعالج موضوعه. 6- المراجع اللغوية: معاجم الألفاظ، ومعاجم المعاني، ومعاجم الأسلوب، وكتب المعربات، ومعاجم اللغات الأخرى التي لها صلة بالعربية. 7- المراجع النحوية. 8- المراجع العلمية الخاصة بفن كل كتاب محقق.

6- التصحيف والتحريف: لا يكاد كتاب يسلم منهما، وبعض المتقدمين يفرقون بين مدلولي الكلمتين، وبعضهم لا يفرق، ووجه الفرق عند من فرق: أن التصحيف: تغيير في نقط الحروف مع بقاء صورة الخط؛ كالخلط بين الحروف المتشابهة في الرسم؛ كالباء والتاء والثاء، والتحريف: تغيير الحرف إلى حرف مقارب في الصورة؛ كالدال واللام والراء، والنون والزاي. وكما ينشأ التصحيف والتحريف عن خطأ في القراءة، فمنه ما ينشأ عن خطأ في السماع، وقد يجتمعان في كلمة أو جملة، ومنه ما يكون خطأ في الفهم.

- كتب التصحيف والتحريف: من أقدم ما ألف فيه كتاب لأبي أحمد العسكري (293-382هـ)، وكتاب للدارقطني (ت385هـ)، وكتاب التنبيهات على أغاليط الرواة لعلي بن حمزة البصري (ت375هـ)، وكتاب التنبيه على حدوث التصحيف لحمزة بن حسن الأصفهاني.

- تاريخه: التصحيف والتحريف قديمان جدا، وقع فيهما جماعة من الفضلاء في القرآن والحديث والشعر والأعلام وغيرها، حتى هجوا من يأخذ العلم عن الصحف. - كتب المؤتلف والمختلف: ألف المتقدمون طائفة من الكتب تعنى بضبط ما يشتبه بغيره من: أسماء الرواة، والشعراء، والقبائل، مقاومة منهم لآفتي التصحيف والتحريف؛ وقد ألف في ذلك: الدارقطني والبغدادي وابن ماكولا والذهبي، والآمدي، ومحمد بن حبيب.

7- معالجة النصوص: - ترجيح الروايات: العبارات الأصيلة التي تزيدها بعض النسخ ويؤيدها الفحص جديرة بالإثبات، وليتنبه المحقق إلى الزيادة التي تكون من جهل الناسخ الذي قد يدرج حاشية ما في صلب النص. ترجح العبارة السالمة من العيوب النحوية واللغوية والمعنوية على غيرها من عبارات النسخ الأخرى المصابة بشيء من ذلك. وهذا كله في النسخ الثانوية، أما النسخ العالية (نسخة المؤلف نفسه، أو المقابلة عليها...) فيثبت ما فيها على علاته، وينبه في الحواشي على الخطأ.

- تصحيح الأخطاء: يشير المحقق إلى اختلاف الروايات بين النسخ، وقد يقتضي الأمر التلفيق بين نسختين تحمل كل منهما نصف الصواب، وعندما يجد أن كل النسخ محرفة في أحد المواضع فعليه أن يتقيد بمقاربة الصور الحرفية التي تقلبت فيها العبارة في النسخ ولا يخرج عن مجموعها قدر الإمكان، مستعينا بالمراجع سابقة الذكر.

- نموذج لتصحيح بعض التحريفات، ودراسة تعليلية لنشوئها: قدم الشيخ نموذجا مكونا من اثنين وأربعين تحريفا عرضت له في كتب شتى، ثم أخذ في تحليل نصف هذا العدد لتبيين كيف حدث التحريف؛ فمثلا كلمة «اجترار» تحرفت إلى «احتراز»، وتحليله: أنه سقطت نقطة الجيم، ثم زاد الناسخ نقطة على الراء الأخيرة لتصير كلمة مألوفة له. - الزيادة والحذف: هما أخطر ما تتعرض له النصوص، والنسخة العالية تؤدى كما هي، إلا أن من المتقدمين من أجاز إلحاق النقص المتعين لإقامة النص وكان معلوما، كلفظة «بن» الساقطة من قوله: «عبد الله مسعود»، فنحو هذه إن نقصت زيدت. والنسخ الثانوية أيضا لا يزاد فيها إلا الضروري المعلوم.

- التغيير والتبديل: التغيير والتبديل في النسخة العالية يخرج بالمحقق عن سبيل الأمانة العلمية، ومن مذاهب أداء النصوص: عدم التغيير أو التبديل إلا ما دعت الضرورة الملحة إليه، والمراجع العلمية تفيد في تقويم نصوص النسخ الثانوية.

- الضبط: إذا كان في النسخة ضبط فله حرمته، خاصة إذا كان في النسخة الأم، وعلى المحقق أن يعبر عن طرق الضبط القديمة- الرموز- بطرق الضبط الحديثة، وما كان له في النسخة ضبطان ضبط كذلك إلا إن تعذر فليشر المحقق إليه في الحاشية، والكتب التي يضبط المؤلف بعضها ويدع بعضها ينبغي في ضبط ما تركه مراعاة أسلوبه ومنهجه واختياراته في الضبط. ويجدر به أن يتوخى الحذر في الضبط؛ فلا يضبط شيئا على غير المعنى الذي أراده المؤلف، ولا ينساق خلف المألوف، وعليه الرجوع إلى المراجع المناسبة في ضبطه خاصة في أسماء الرواة والقبائل والبلدان ونحوها.

- التعليق: الكتب القديمة بما تضمنته من معارف تحتاج إلى توضيح ما بها من غموض، فينبغي إثبات التعليق الضروري، بلا إسراف، ليطمئن القارئ إلى عمل المحقق. ومما يقتضي التعليق ربط أجزاء الكتاب بعضه ببعض، والتعريف بالأعلام والبلدان الغامضة والمشتبهة، والإشارات التاريخية أو الأدبية أو الدينية، وتخريج الآيات والقراءات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار والأرجاز وأقوال العرب، وتوثيق نقول المؤلف عن غيره.

8- المكملات الحديثة: «كان للمستشرقين فضل عظيم في تأسيس المدرسة (الطباعية) الأولى للتحقيق والنشر»، وكان أكبر وسيط نقل هذا الفن الطباعي هو العلامة أحمد زكي باشا الذي أشاع مع ذلك استعمال علامات الترقيم الحديثة وضروبا أخرى من المكملات الحديثة للنشر العلمي؛ أهمها:

1- تقديم النص: يشتمل على: التعريف بالمؤلف وعصره وما يتصل به من تاريخ، ودراسة عن الكتاب وموضوعه وعلاقته بغيره من الكتب التي في موضوعه، ودراسة فاحصة لمخطوطات الكتاب ووصفها وصفا دقيقا وبيان ما اعتمد عليه منها، وإرفاق نماذج منها، ويصنع كل ذلك بعد الفراغ من طبع النسخة الأخيرة من الكتاب لتتميم الدراسة في ضوئها، ولتسهيل الإشارة إلى النص.

2- العناية بالإخراج الطباعي: * إعداد الكتاب للطبع: تكتب النسخة بعد التحقيق والمراجعة بخط واضح لا لبس فيه، مستوفية علامات الترقيم، منظمة الفقار والحواشي، مزودة بالأرقام التي يحتاج إليها الباحث، مع تجنب التعقيدات الطباعية. * علامات الترقيم: وهي العلامات الطباعية الحديثة التي تفصل بين الجمل والعبارات وتدل على معاني الاستفهام والتعجب ونحوه، وهي مقتبسة من نظام الطباعة الأوروبي، ولها أصل في الكتابة العربية؛ إذ كانوا يستعملون نقطة كبيرة مجوفة (O) للفصل بين الأحاديث ونحوها، وعندما يقابل الكتاب توضع بداخلها نقطة مصمتة (0). ومن علامات الترقيم: الفاصلة (،) وعلامة التنصيص («»)، والأقواس ( )، وعلامة التكملة الحديثة: [ ]. والأولى بالناشر أن يلتزم العرف الغالب.

* تنظيم الفقار والحواشي: كان بعض المتقدمين يميز بداية الفقرة بأن يضع خطا فوق أول كلمة فيها، أو بكتابة بدايتها بمداد مخالف أو بخط كبير، أما الحواشي فكانوا يكتبونها في جوانب الصفحة أو بين الأسطر. وعند المحدثين تبدأ الفقرة في سطر جديد مع بعض الفراغ في أوله، وفي الحواشي مذاهب: فمنهم من يضع حواشي كل صفحة في أسفلها، ومنهم من يضع فروق النسخ أسفل الصفحات وسائر الحواشي في نهاية الكتاب، ومنهم من يضع الجميع في نهاية الكتاب، ويفضل الشيخ الطريقة الأولى، وأن تبدأ كل حاشية بسطر مستقل.

* الأرقام: توضع بعض الأرقام المهمة في أحد جانبي الصفحة؛ منها: أرقام صفحات الأصل المعتمد في أحد جانبي الصفحة مع تعيين بدايتها في المتن بخط مائل ( /)، أو رأسي( )، أو نجمة ( * )، ومنها: أرقام النشرات السابقة التي عول عليها الباحثون قبل نشرة المحقق، ومنها أرقام الأسطر بالنظام الخماسي (5، 10، 15،...).

* التعقيدات الطباعية: كل ما مضى يرجع إلى ذوق الناشر وحذقه وترفقه بالقارئ، وليبعد عن استعمال التعقيدات التعبيرية والعددية التي تكد ذهن القارئ وتخرج به عن فهم النص إلى حل الرموز وفك الألغاز.

* معالجة تجارب الطبع: يجب على المحقق مباشرة معظم الخطوات الطباعية بنفسه، لتفادي مزلات التصحيح التي من أهمها: قراءة التجربة بالإلف كما يقرأ الصحف؛ إذ لا بد أن يقرأ بعينه وفكره معا حرفا حرفا. ومنها: انتقال النظر عند جامع الحروف، ومنها: تكرار النظر، ومنها: الثقة بحروف الطباعة فلا يفطن للحروف الخفيفة الملتبسة بغيرها؛ وعلاج ذلك باستعمال الشك في كل موجب للريبة وتداركه قبل استفحاله.

3- صنع الفهارس الحديثة:

للفهارس المقام الأول بين المكملات الحديثة؛ لأنها تيسر الاهتداء إلى خفيات النصوص، وللفهارس سابقة عند المتقدمين في كتب التراجم والرجال واللغة والبلدان، و«للمستشرقين فضل التوسع والتنويع فيها»، ولكل كتاب منهج خاص في فهرسته.

* طرق صنع الفهارس: 1- طريقة الجذاذات، يكتب فيها المفهرس ثم ترتب هجائيا ويكون لها صندوق خاص، به بيوت صغيرة بعدد حروف الهجاء، لفرز الجذاذات، ويعيبها احتمال فقد إحداها، وأنها أشبه بالعمل الآلي. 2- طريقة الدفتر المفهرس، تخصص فيه كل مجموعة من الأوراق لكل حرف من الحروف، وهي أضبط من السابقة، ولكنها لا تستغني عنها؛ إذ قد يحتاج مستعملها إلى عمل جذاذات للترتيب فحسب، خاصة في الفهارس الكبيرة.

* استخراج الفهارس: يضع المفهرس علامة على ما يريد فهرسته، وبعضهم يميز الفهارس بالألوان أو بالرموز: ح= للحديث، ع= للعلم، ق= للقبائل، وهكذا، وكلما انتهى من فهرسة شيء وضع عليه علامة تفيد أنه فهرسه، ليطمئن.

* ترتيب الفهارس: لترتيب كل فهرس في نفسه، تصنع مجموعات مرتبة على الثواني ثم الثوالث وهكذا، وينضبط ذلك بصنع صندوق جذاذات. أما الآيات القرآنية فالكثير يرتبها على السور حسب ورودها في المصحف، وبعضهم حسب ترتيب الهجاء، واهتدى الشيخ إلى طريقة أخرى وهي ترتيبها على المواد اللغوية اعتمادا على بروز بعض الكلمات، ومثل ذلك يقال في الأحاديث النبوية. وأما الأعلام والبلدان والقبائل فليست عسيرة، لكن يتنبه المحقق إلى الإحالات فيحيل أرقام كل من الألقاب والكنى إلى الاسم، إلا إذا لم يرد للكنى والألقاب اسم فتوضع في مكانها، وبعض المفهرسين يعتد بـ«ابن» و«أبو» و«ذو»، وبعضهم لا يعتد بها. والشعر يرتب حسب القافية من الهمزة إلى الياء، ثم تقسم كل قافية إلى: الساكنة فالمفتوحة فالمضمومة فالمكسورة، وربما أضيف إلى ذلك ترتيب البحور الستة عشر، واهتدى الشيخ إلى طريقة أخرى داخل كل قافية؛ وهي: فعل، مفعل، فعل، فواعل، فعال وأفعال، فعول وفعيل. أما ترتيب الفهرس مع غيره من الفهارس فينبغي تقديم أشد الفهارس مساسا بموضوع الكتاب.

4- الاستدراك والتذييل:

إن الخطأ في معالجة النصوص أمر مشترك، لا إثم فيه، ولكن الإثم في تركه وكتمانه، فعلى المحقق أن يلحق بالكتاب مستدركا يضم ما فاته من التحقيقات أو التوضيحات أو التصويبات.

9- صعوبات التحقيق والطريقة المثلى لمعالجتها: أ- رداءة المخطوط من حيث نوع الخط. ب- رداءته من حيث كثرة التصحيف والتحريف والأسقاط. ج- أو لتعرضه لعوامل البلى والتآكل، أو الانطماس أو الاندثار بسبب جهل المجلدين. د- غرابة موضوع الكتاب. هـ- غرابة الكتاب في لغته؛ كأن يلتزم المؤلف أسلوبا خاصا أو ألفاظا خاصة.

أما معالجة هذه الصعوبات فتكون بما يلي: أ- جمع أكبر عدد ممكن من نسخ الكتاب ومقابلتها بدقة. ب- تكرار قراءة المخطوط حتى يألف الخط. ج- اللجوء للمراجع التي يظن أن المؤلف استقى منها أو استقت منه، ومقابلة هذا على ذاك. د- التأني في فهم النص، وتغليب الشك على اليقين. هـ- أن يكون له دربة خاصة بأسلوب المؤلف، ومعرفة بعصر تأليفه الكتاب. و- أن يكون ذا خبرة بما يتعرض له الكلام من التصحيف والتحريف. ز- أن يحتال ويحسن الحيلة في تقدير ما انطمس وحزر ما بتر. ح- استشعار الأمانة والحد من الجرأة على النص. ط- أن يتنبه إلى أن التحقيق هو تأدية نص الكتاب كما صنعه المؤلف لا كما يستحسنه المحقق.

10- نماذج مصحفة محرفة يتلوها تصويبها: عرض الشيخ نماذج من الشعر مصحفة محرفة أتبعها بتصويبها، على مدى ثماني صفحات.

11- معجم لبعض التصحيفات الواردة في «كتاب الحيوان» للجاحظ: ثم عرض معجما لبعض التصحيفات التي وردت في «كتاب الحيوان» للجاحظ بتحقيق الشيخ، رتبها على حروف المعجم، ويشتمل على الكلمة المصحفة أو المحرفة، يتلوها العبارة التي وردت فيها الكلمة، ثم تصويبها، واستغرق معجمه خمس عشرة صفحة.

12- خاتمة: أنهى الشيخ كتابه بخاتمة قصيرة جدا من خمسة أسطر، جاء فيها: «أما بعد، فهذا ما أدته إلي الدراسة الباحثة، وهدتني إليه تجارب الأعوام الطوال، ولعل في هذا ما يمنحني العذر في أن أسوق الحديث أحيانا عن عملي وتجربتي في زمان أربى على [الخمسين] عاما...».

13- نماذج لبعض المخطوطات: قدم فيها الشيخ سبعة نماذج لصور مخطوطات مختلفة التواريخ والخطوط والفنون، مع شروحها والتعليق عليها، وهذا كالملحق في آخر الكتاب.

14- فهارس الكتاب: ذيل الشيخ كتابه بست فهارس فنية هي: 1- فهرس منهج الكتاب. 2- فهرس المصطلحات والمسائل الفنية. 3- فهرس الأعلام. 4- فهرس القبائل والطوائف. 5- فهرس البلدان والمواضع ونحوها. 6- فهرس الكتب التي كانت موضع دراسة فنية. ثم أعقب ذلك بثبت لمراجع البحث. وبهذا ينتهي هذا التلخيص المكثف لكتاب الشيخ هارون، جاءت فيه كل عشر صفحات من الكتاب- تقريبا- في صفحة واحدة في المتوسط([19]).

الفصل الثاني

تحليل أهم مسائل الكتاب، ونقده

المبحث الأول تحليل أهم مسائل الكتاب، وبيان طريقة معالجتها

بعد هذا العرض المكثف للكتاب يمكن أن نستخلص أهم مسائله وإجمالها فيما يلي: مقدمة الكتاب. أصول النصوص. فحص النسخ. تحقيق العنوان وتحقيق اسم المؤلف ونسبة الكتاب إلى المؤلف. تحقيق متن الكتاب ومقدماته. ترجيح الروايات وتصحيح الأخطاء. ضبط النص والتعليق عليه. المكملات الحديثة. صنع الفهارس الحديثة. وقبل التفصيل في تحليل هذه القضايا نشير إلى أن الشيخ- رحمه الله- في معظم كتابه يكثر من ذكر الأمثلة لما يتحدث عنه، إما من أعماله هو، أو من أعمال غيره.

1- مقدمة الكتاب: في المقدمة عندما تكلم الشيخ عن «الغزو الفكري» وأهمية أن نتخلص من إسار التبعية الغربية، قرر أن المستشرقين- الذين هم أول من تنبه ونبهنا إلى قيمة تراثنا وضرورة تحقيقه ونشره- «إخواننا وشركاؤنا، ولكن ليس من الحكمة ولا الكرامة في شيء أن تكون خطانا متأثرة بخطاهم في كل أمر من أمورنا الثقافية، وأن نستعير عقولهم في صغار الأذلاء، وقد منحنا الله القدرة وحسن الفهم والدرس لما كتب بلغتنا وبوحي نفوسنا العربية»؛ وفي كلامه عن المستشرق (برچستراسر) يقول: «وعلمت أنه قد ألقيت من قبل في كلية الآداب بجامعتنا القديمة محاضرات تدور حول هذا الفن، ألقاها المستشرق الفاضل (برچستراسر)، فحاولت جاهدا أن أطلع على شيء منها فلم أوفق»؛ انظر كيف وصفه بـ«الفاضل»، وأنه «حاول جاهدا» أن يطلع على محاضراته ليفيد منها؛ وليكون منهجه كاملا، وكيف جعل عدم اطلاعه من عدم التوفيق؟! فهذا عالم يعرف لكل ذي حق حقه، ويعترف بجهد المستشرقين ولا يغمطهم حقهم، وفي الوقت نفسه لا يسمح لنفسه أن يكون تابعا لهم في كل شيء مغاليا فيهم([20])، وكان حريا بالشيخ- وبنا من بعده- أن نتعلم من المستشرقين مناهج التحقيق حذو القذة بالقذة لو لم تكن في تراثنا مستوفاة.

2- أصول النصوص: في كلامه على الأصول نبه الشيخ تنبيها قيما فيما يخص تواريخ النسخ، وهو أن الناسخ قد يغفل فينقل من خط المؤلف تاريخ انتهائه من كتابة الكتاب، ولا يتبعه بما يشعر بالنقل، فيظن من يطلع عليها أنها نسخة المؤلف. وهذا التنبيه يدل على سعة اطلاعه على المخطوطات وخبرته بأساليب النساخ. وعندما تطرق للحديث عن المسودة والمبيضة وتعدد الإصدارات للكتاب الواحد، ضرب على ذلك أمثلة، ثم ذكر صورة أخرى من تكرار التأليف وهي اختلاف فكرة التأليف ذاتها بين الاختصار والتوسط والتطويل، مفرقا بين ذلك وبين تعدد الإصدارات؛ ويعكس هذا وعيه وخبرته بأساليب المتقدمين وطرائقهم في التأليف. ثم أورد نصا عن النديم في «فهرسته» متحدثا عن كتاب «الجمهرة» لابن دريد وتعدد إصداراته، واستنبط الشيخ من هذا النص سابقة قديمة في جواز التلفيق بين النسخ، ويغلب على الظن أن هذا هو رأي الشيخ في مسألة تعدد الإصدارات؛ وقد تأكد لي ذلك بالرجوع إلى المثال الذي ضربه الشيخ بكتاب «البيان والتبيين» للجاحظ- بتحقيقه- فوجدته قد وقف على الإصدارة الثانية للكتاب وهي نسخة واحدة وهي الأصح والأجود، ومعها الإصدارة الأولى ولها نسخ كثيرة، فأثبت الشيخ الإصدارة الثانية وجعلها الأصل، وأضاف زيادات النسخ الأخرى بين معقوفين([21]). على أن الدكتور عبد الستار الحلوجي قد انتقد كتاب الشيخ هارون في هذه الجزئية، وقدم عليه فيها محاضرات المستشرق (برچستراسر)؛ ذاكرا أن الشيخ هارون ترك المسألة معلقة في حين قرر (برچستراسر) أن تنشر الإصدارات جميعا([22]).

3- فحص النسخ: أهم شيء ألمح إليه الشيخ في هذا الموضوع هو إمكانية أن تكون آثار القدم على النسخة الخطية ما هي إلا من صنيع المزورين! وفي هذا ملمح خطير جدا يزيد من عبء المشتغلين بأمر المخطوطات، ويزيد من حذرهم وحيطتهم، ويربي فيهم الحس النقدي، فلا ينخدعون بمثل هذه الأمور.

4- التحقيق: تحقيق العنوان، وتحقيق اسم المؤلف، وتحقيق نسبة الكتاب إلى المؤلف: كعادة الشيخ في الاهتمام بدقائق الأمور والتنبيه عليها؛ نبه في هذه الموضوعات الثلاثة إلى تشابه أسماء الكتب واحتمال وقوع التحريف والتصحيف في اسم المؤلف، مشيرا إلى ضرورة دراسة المادة العلمية للكتاب ومدى تطابقها مع المعروف عن المؤلف وأسلوبه، مبرزا أهمية الاعتبارات التاريخية ودورها في تدقيق نسبة كتاب لمؤلفه، وهو في الثلاثة الموضوعات يعرض المشكلة ويعللها ويفسر من أين جاءت، ثم يقدم الحل الأمثل لها، أو الخطوات المنهجية التي يتبعها المحقق ليصل إلى وجه الصواب، ذاكرا كثيرا من الأمثلة.

5- تحقيق متن الكتاب، ومقدماته: عالج الشيخ هذه القضية مؤكدا على أن التحقيق أمانة ونتاج خلقي ينبغي لمن تصدى له أن يتحلى بالصبر والأمانة، محذرا من خطر التغيير والتبديل في الأصل، مسهبا في ذكر الأمثلة على الأخطاء الواردة في آيات من القرآن الكريم؛ ليستشعر المحقق الحذر في تحقيق آيات القرآن، مؤكدا أن مثل هذه الأخطاء يجب أن تصحح وأن القرآن ليس كمثل باقي الكلام، فخطر القرآن أجل من أن يجامل فيه المخطئ؛ وهذا يدل على ورعه ومراعاته كتاب الله تعالى أن يصيبه تحريف أو تصحيف في الكتب، وأنه مرن في اتباع المنهج غير جامد عند النص. بعد ذلك أفاض في الحديث فيما ينبغي للمحقق أن يلم به من مقدمات التحقيق؛ كالتمرس بقراءة المخطوط وبأساليب المؤلف واصطلاحاته في الاختصارات واصطلاحات النساخ في الرسم والحذف والإضافة والتضبيب ونحوه، ثم ذكر للمحقق طائفة من الأمور التي ينبغي اتباعها والمراجع التي تفيده في عمله في مختلف مراحل الكتاب. وهو في هذا يسير مع المحقق خطوة خطوة ويضع يده على كل ما يحتاجه في عمله مبينا له ما قد يعرض له من مشكلات وكيف يتعامل معها.

6- ترجيح الروايات وتصحيح الأخطاء والتغيير والتبديل والزيادة والحذف: قرر وجود اختلافات بين النسخ، منبها على الزيادات التي قد تكون مقحمة ضاربا مثالا على ذلك، وأجاز التلفيق بين النسخ إذا كان بعضها يحمل شيئا من الصواب والبعض الآخر بقيته، لافتا الانتباه إلى شيء دقيق لا يصل إليه إلا من تمرس بالمخطوطات وعالج فن التحقيق؛ وهو إمكانية وجود تحريف في جميع النسخ، وتظهر براعة الشيخ في طريقة حل هذه المعضلة وتأكيده أن على المحقق أن يتقيد بمقاربة الصور الحرفية التي تقلبت فيها العبارة أو الكلمة في النسخ فلا يأتي بكلمة بعيدة عما في النسخ كلها، ولم يقتصر على ذلك حتى عرض نموذجا فيه بعض التصحيفات والتحريفات وتصويبها ثم تحليل كيفية نشوء بعضها، وهو بهذا يعلم المحقق كيف يفكر في فك شفرة التصحيف. ثم حذر من الزيادة والحذف والتغيير والتبديل في الأصول العالية، وأجاز ذلك في النسخ الثانوية على أن يكون ذلك في الضروري المعلوم فقط، ناقلا ذلك عن السلف.

7- ضبط النص والتعليق عليه: ألمح في الكلام على الضبط إلى شيء قد يخفى على الكثيرين؛ وهو التزام ضبط المصنف وطريقته في ضبط ما تركه، وأن يختار المحقق للكلمة التي لم يسبق للمؤلف ضبطها: اللغة العالية ويدع النازلة، مؤكدا على أن الضبط يحتاج إلى الدقة والحرص والتريث. وفي مسألة التعليق على النص يختار الشيخ التعليق على النص بما يوضح غامضه ويزيل لبس مشتبهه، مقدما لذلك بأن الكتب القديمة فيها معارف قديمة كتبت في عصر غير عصرنا، وهو سبب مقنع جدا، وقد أضاف إليه أن القارئ يحتاج إلى الاطمئنان إلى صنيع المحقق في ترجيحه لبعض الروايات مثلا؛ فالتعليق بذكر ذلك- مع التوثيق بلا شك- يطمئن القارئ ويحمله على الثقة بما يقرأ وبجهد المحقق، مشيرا إلى الإسراف في التعليق وأنه ما لا ينبغي.

8- المكملات الحديثة: تظهر في هذه الجزئية موضوعية الشيخ وإنصافه فقد حفظ للمستشرقين حقهم وأنهم أدوا أمانة ما سبق أن نقلوه عن العرب، وعدنا نحن فنقلناه منهم، ذاكرا فضل العلامة أحمد زكي باشا في نقل أمور طباعية كثيرة عن المستشرقين. ذكر الآراء المختلفة في طريقة إثبات الحواشي ثم ذكر رأيه في ذلك معللا له. كما نبه تنبيها جليلا يعالج مشكلة كثرة الأخطاء الطباعية في نشر النصوص؛ وهو القراءة المتأنية لتجارب الطباعة وعدم القراءة بالإلف.

9- صنع الفهارس الحديثة: نبه فيها أيضا على فضل المستشرقين وسبقهم، وأفاد القارئ بأمور كثيرة نابعة من خبرته، ومنها الفهارس الخاصة التي صنعها لبعض الكتب التي حققها، وقد عرض بعض المشكلات التي قد تواجه المحقق وعرفه كيف يعالجها ويتغلب عليها، وذكر طريقة فريدة لترتيب فهارس الشعر.

المبحث الثاني نقد كتاب الشيخ هارون

أولا: مزايا الكتاب ومحاسنه:

من الصعب حصر مزايا هذا الكتاب ومحاسنه، وحسبنا أن نذكر أمورا عامة هي كالأمثلة على ذلك:

1- أنه أول كتاب عربي يطبع في هذا المجال.

2- أن مؤلفه شيخ جليل له باع طويل في هذا الفن، وقد ألفه بعد تجارب طويلة في معالجة أمور التحقيق.

3- أن الكتاب عربي خالص، لم يكن فيه تأثر كبير بالغرب والمستشرقين([23]).

4- كثرة النماذج التطبيقية التي يعرضها الشيخ لشرح أفكاره وتأكيدها، وغالبها من أعماله التي اضطلع بها على مدى 50 عاما.

5- أن الكتاب يعد نبراس هداية لمن يريد تعلم التحقيق خطوة خطوة منذ أن يفكر في تحقيق كتاب بعينه حتى يطبع الكتاب.

6- تنبيهه على دقائق الأمور وشرح كيفية معالجتها بطرق شتى.

7- أنه يعلم القارئ كيف يفكر فيما يعرض له من مشكلات وكيف يحلها.

8- أن المؤلف غير جامد على المنهج، بل إنه مرن، يعلم قارئه كيف يتعامل مع التراث بمرونة، وفي الوقت نفسه بحذر وحيطة وعدم اجتراء.

9- أسلوب المؤلف أدبي رفيع؛ ولا غرو فقد صاحب أرباب البيان والفصاحة واللغة والأدب في تحقيقاته ودراساته.

10- لم يدع الشيخ في كتابه جزئية من قواعد تحقيق النصوص ونشرها إلا شرحها وبينها.

11- حجم الكتاب- مع ذلك كله- ليس بالكبير المستثقل حمله، ولا بالصغير المستحقر جرمه؛ فلم يسرف الشيخ في الكلام والشرح والتمثيل، كما أنه لم يقتضب كلامه اقتضابا يجعل القارئ يقرأ ولا يشفي منه غلته، وأزعم أنه يكاد لا يدور بذهن القارئ سؤال إلا وجد إجابته في هذا الكتاب.

12- طبق الشيخ كثيرا من قواعده في إخراجه كتابه هذا؛ كصنع الفهارس وربط كتابه بعضه ببعض، والتعليقات الموضحة الشارحة الموثقة.

ثانيا: المآخذ على الكتاب:

أبى الله سبحانه أن يكمل ويتم إلا كتابه، أما البشر فغير معصومين من الزلل، ولا مبرئين من الوهم والخطل؛ والعالم من عدت هفواته، وأحصيت سقطاته: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه ولن أتناول في هذا النقد الأمور الطباعية؛ لأن الطبعة التي بين يدي طبعت والشيخ رحمه الله قد انتقل إلى جوار ربه؛ وفي رحمته بإذنه ومنه وكرمه! ومما يمكن أن يعد من المآخذ على هذا الكتاب ما يلي([24]):

1- أن الشيخ لم يرتبه الترتيب المتعارف عليه؛ على الأبواب والفصول، مجمعا الأشباه والنظائر، ولم يفصل بين العناوين فصلا واضحا، وقد أدى ذلك إلى تداخل العناوين بعضها في بعض، وتكرار الكلام على بعض الجزئيات: من ذلك: تكراره الكلام على منازل النسخ مرتين في (ص 29 وما بعدها) و (ص 37)، فلو محض الكلام في العنوان الأول في أصول النصوص، وأفرد الكلام على منازل النسخ ومراتبها في العنوان التالي، لتخلص من هذا التكرار. ومن ذلك أيضا: الكلام على فحص النسخ (ص40-41) مضى بعضه فيما سبق في الحديث عن الأصول ومنازلها. ومن ذلك الكلام على التصحيف والتحريف: أفرد له عنوانا رئيسا (ص65-71)، بعده تحدث عن معالجة النصوص (ص72-73)، ثم أورد نماذج للتصحيفات والتحريفات (ص74-77)، ثم تكلم عن أمور أخرى كثيرة، ثم عاد وألحق نماذج للتصحيف والتحريف (ص103-110)، ثم معجما للتصحيفات (ص111-125).

2- أنه كان من الممكن الاستغناء عن العناوين الثلاثة الأولى التمهيدية؛ لعدم دخولها في صميم الموضوع، ولأنه لم يعطها حقها من البحث، ولم يوازن بينها، فجاء بعضها مختزلا مقتضبا- بل مختصرا اختصارا مخلا؛ كما في الكلام عن الخطوط وتطورها- وجاء بعضها أكثر بسطا من سابقه. وهذا المأخذ مما أخذه عليه الدكتور المنجد في كتابه «قواعد تحقيق المخطوطات». ولعل عذر الشيخ في ذلك أن الكتاب كان عبارة عن مجموعة محاضرات ألقيت على طلبة الدراسات العليا، ولعله كان من المناسب لهم مثل هذا التمهيد، إلا أنه يرد عليه أن الكتاب ظل في يد الشيخ مدة طويلة فكان ينبغي أن ينقحه أكثر من ذلك.

3- بعض الأمور كان ينبغي الاهتمام بها بإفراد عنوان لها؛ كالمسودات والمبيضات، وتعدد إصدارات الكتاب، إلا أن اختصار الشيخ أحيانا يزهده في كتابة العناوين.

4- أخذ عليه الدكتور الحلوجي في توطئته لكتاب (برچستراسر) أنه لم يبت في أمر تعدد الإصدارات، وأي منها ينبغي على المحقق إخراجه، وقد بينت أن مذهب الشيخ في ذلك يستنبط استنباطا، وكان على الشيخ- رحمه الله- أن يوضح مذهبه جليا ولا يترك الأمر للاستنباط، خاصة وأن المسألة مهمة. وقد تقدمت هذه الجزئية في أثناء تحليل مسائل الكتاب([25]).

5- في كلامه على فحص النسخ ذكر أن على المحقق دراسة الورق والمداد، وهذا أمر بعيد المنال بالنسبة لجمهور المحققين؛ لأن الغالب الآن أن المحقق يحصل على نسخة مصورة إما ورقية وإما إلكترونية أو بالميكروفيلم، ولو قدر له وحصل على الأصل فإن ذلك يحتاج خبرة خاصة بعلم المخطوطات (الكوديكولوجيا) الذي يدرس الجوانب المادية للمخطوط، ولا يلزم المحقق الاضطلاع بهذا الأمر- فيما أرى- فهذه مهمة المؤسسات التي تقتني المخطوطات وتقوم بشأن المحافظة عليها وترميمها وفهرستها.

6- في كلامه على مقدمات التحقيق كان ينبغي تقديم جزئية الإلمام بموضوع الكتاب والبداءة بها في المقدمات. كما أنه في ذكر المراجع كان ينبغي تقديم المراجع التي استقى منها المؤلف والتي نقلت منه على غيرهما؛ لشدة التصاقهما بنصوص الكتاب.

7- في كلامه عن أسباب نشوء التصحيف والتحريف وأنها: الخطأ في القراءة، أو في السماع، أو في الفهم، ومن وجهة نظري: أن الفهم تابع لأحدهما، فلا حاجة لإفراده، إلا أن يكون قصد أنه قد يقرأ صوابا أو يسمع صوابا ويفهم خطأ؛ فيغير مصحفا أو محرفا؛ فيستقيم الأمر؛ لكنه يحتاج إلى بيان.

8- في كلامه عن التعليق على النص، ذكر توثيق نقول المؤلف عن غيره، ولم يذكر توثيق نقول غير المؤلف عنه، وهي لا تقل أهمية عن سابقتها.

9- في كلامه على التعقيدات الطباعية وخاصة العددية (ص89)، ذكر أن استعمال الحروف في الدلالة على الأرقام يشبه فعل الرومان، وأن الرقم 896، يعبر عنه بالحروف هكذا: (ا هـ ق ي ف ق ث). والمعروف أن هذه الطريقة تشتهر بـ«حساب الجمل»، وأنها كانت تستعملها اليهود قبل الإسلام في الحساب والتنجيم ونحوه، وعنهم أخذها العرب واستعملوها في التأريخ في الشعر وغيره، ولا بأس باستعمالها في الحساب، أما في التنجيم فلا. وليس فيها ذلك التعقيد؛ والرقم الذي ذكره لا يترجم بكل ما ذكره من الحروف، وإنما بـ(و ص ض)؛ إذ إن و=6، ص=90، ض=800، والمجموع= 896. وليس مناسبا الحديث عن حساب الجمل هنا، لكن من الغريب أن شيئا كهذا يفوت الشيخ!

10- فيما ذكره من الاختصارات (ص57) ذكر أن «نا» اختصار لـ«حدثنا»أو «أخبرنا»، وأن «أنا» اختصار لـ«أنبأنا» أو «أخبرنا». والصواب أن «نا» اختصار لـ«حدثنا» فقط، وأن «أنا» اختصار لـ«أخبرنا» فقط، وأن المحدثين لم يصطلحوا على اختصار «أنبأنا». والسبب في وقوع كثير من الباحثين في هذا الخطأ، أن بعض المحدثين يختصر «أخبرنا» فيكتب منها الألف الأولى مع صورة اختصار «حدثنا»، وهي «ثنا» دون نقط الثاء، أي: «أبنا»، قال ابن الصلاح: «وليس بحسن»([26]). وقال شمس الدين السخاوي: «وكأنه- أي: عدم استحسان ابن الصلاح- للخوف من اشتباهها بـ«أنبأنا» كما نشاهده من كثيرين»اهـ([27]). قلت: وقد أدى هذا الالتباس إلى أن بعضهم يقرؤها ويكتبها: «أنبا» تأكيدا للظن أنها اختصار لـ«أنبأنا»([28]).

11- في مسألة التصحيف والتحريف ذكر الشيخ تصحيفا منسوبا للجاحظ في كتابه «البيان والتبيين»، وقد فند هذه الحكاية الدكتور الطناحي ودرسها وأثبت أنها مكذوبة على الجاحظ([29])، لكن بقي على نافي الحكاية أن ينظر في مجيئها في نسخ «البيان» بتحقيق الشيخ.

الفصل الثالث

مقارنة بين كتاب الشيخ هارون: «تحقيق النصوص ونشرها»

وكتاب الدكتور المنجد: «قواعد تحقيق المخطوطات»

المبحث الأول تعريف موجز بالدكتور صلاح الدين المنجد وكتابه، وما دار بينه وبين الشيخ هارون

المطلب الأول: التعريف بالدكتور صلاح الدين المنجد([30]):

هو الدكتور صلاح الدين عبد الله محمد سليم المنجد، وهو علم من أعلام التراث في العالم العربي. ولد بدمشق بحي القيمرية، ونشأ ببيت علم وقرآن وأدب، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة البحصة، أما المرحلة الثانوية فقد أكملها بالكلية العلمية الوطنية، وكان من أساتذته فضيلة الشيخ العلامة محمد بهجة البيطار والشاعر الكبير خليل مردم بك، واتصل في عام 1940م بعلامة الشام محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق، وهو الذي نصحه بالتوجه إلى التراث العربي المخطوط، وخاصة تاريخ مدينة دمشق وعلمائها، التحق بعد حصوله على الشهادة الثانوية بدار المعلمين العليا، وعمل بعد تخرجه من دار المعلمين سكرتيرا للتعليم العالي والفني بوزارة المعارف، وانتسب خلال عمله بوزارة المعارف إلى كلية الحقوق، وحصل على ليسانس الحقوق بعد ثلاث سنوات، وتدرج في وزارة المعارف حتى عين مديرا للعلاقات الثقافية والبعثات، وابتعث للحصول على شهادة الدكتوراه وحصل عليها في القانون الدولي العام والتاريخ من جامعة السربون، وعمل مديرا لمعهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية، ثم مستشارا به، وظل بالمعهد حتى عام 1961م، حضر كثيرا من المؤتمرات العربية والدولية، وحاضر في كثير من المعاهد والجامعات؛ مثل معهد الدراسات العربية العليا، وجامعة فرانكفورت، وجامعة برنستون، وهو من العلماء الموسوعيين في ثقافتهم؛ وله عدد من المؤلفات يزيد على 150 مؤلفا في كثير من العلوم؛ فمنها المعاجم، والدراسات التاريخية، والسيرة النبوية، والمؤلفات الأدبية، ودراسات عن الخطوط، والفكر السياسي المعاصر والوثائق السياسية، والاستشراق، والمخطوطات العربية فهرستها وتحقيقها، والدراسات الأثرية والتاريخية عن دمشق وسورية، والمخطوطات المحققة، والدراسات الإسلامية والفقهية والفتاوى. وأتاحت له إدارته لمعهد المخطوطات زيارة كثير من مكتبات العالم الزاخرة بالتراث العربي المخطوط، فانتقى النفيس منها وصوره ليحفظ في المعهد، وأصدر خلال إدارته للمعهد مجلة معهد المخطوطات العربية وهي أول مجلة متخصصة في العالم العربي في أمور المخطوطات والتراث. ومن جليل خدمته للتراث وضعه قواعد لتحقيق المخطوطات وقواعد لفهرستها لاقتا القبول عند العلماء والدارسين.

المطلب الثاني: التعريف بكتابه «قواعد تحقيق المخطوطات»:

ألف الدكتور صلاح الدين المنجد «قواعد تحقيق المخطوطات»، ونشرها في مجلة معهد المخطوطات، مج1، ج2، ربيع الأول 1374هـ- نوفمبر 1955م، (ص317-337)، وكان آنذاك مديرا للمعهد، وقد طبعت عدة طبعات بعد طبعتها الأولى في مجلة المعهد، وهذا التاريخ يعني أنه ألفها بعد زمن حافل بالعمل في مجال التراث وتحقيقه والعناية بالمخطوطات. بدأ قواعده بمقدمة تكلم فيها عن سبق المستشرقين إلى نشر تراثنا العربي، وأن العرب بعضهم نجح في أن ينسجوا على منوال المستشرقين، وبعضهم أخفق في ذلك، وذكر أن على ناشري النصوص من العرب اتباع طريقة المستشرقين والاطلاع على قواعدهم واقتباسها أو اقتباس الجيد منها.

ثم ذكر غايته من تأليف قواعده وهي: توحيد طرق النشر والتعريف به، وعن مصادره فيها ذكر أنه استقاها من نهج المستشرقين الألمان ومن خطة جمعية (غيوم بوده) الفرنسية ومن قواعد المحدثين القدامى في ضبط الروايات وما نشر في هذا الموضوع من قبل، ومن تجاربه الشخصية في التحقيق. وتكلم في بداية الكتاب عن الدراسات السابقة عليه في هذا المجال ونقدها باختصار، وخص بالنقد كتاب الشيخ هارون. ثم تحدث عن جمع النسخ وترتيبها، وتقسيمها إذا كثرت إلى فئات، وكيفية ذلك والمراجع المساعدة فيه. ثم عن تحقيق النص، وأن غاية التحقيق تقديم المخطوط صحيحا كما وضعه مؤلفه دون شرح، داعيا إلى ترك التعليق على النص إلا بتصويب الأخطاء وإثبات اختلاف الروايات، معتبرا التعليق تبجحا بالعلم والمعرفة ممن يصنعونه. ثم ذكر المقابلة بين النسخ وطريقة إثبات الفروق وتصحيح الأخطاء والزيادة والنقصان على الأصل، منبها على اصطلاحات الرسم القديم من حيث الإهمال والإعجام والاستشكال والتضبيب والتصحيح، ثم تكلم عن قضية الرسم وأن على المحقق اتباع الرسم الإملائي الحديث، وذكر زمرة من الألفاظ المختصرة. ثم تحدث عن ضبط ما أشكل من النص بالشكل، وكيفية كتابة العناوين، وتقسيم النص وترقيمه، وكيفية كتابة الأحاديث، وتكلم عن علامات الترقيم الحديثة، ثم ذكر الحواشي وطرق كتابتها، وأن فيها مذاهب. ثم ذكر التعليق على النص وأن فيه مذهبين: أحدهما مغال في التعليق والشرح، والآخر يقتصر على اختلاف النسخ وتصويب الأخطاء. واختار الرأي الثاني؛ بناء على أن المراد من التحقيق إبراز النص صحيحا كما وضعه المؤلف، وأن مجرد ذكر اختلاف النسخ يبين الصحيح من الخطأ، فليقتصر عليه المحقق مضيفا إليها توثيق نقول المؤلف.

ثم ذكر مصادر النص وقصد بها توثيق نقول المؤلف وتخريج الآيات، والأحاديث، والأشعار والشواهد، أما الأعلام والبلدان والألفاظ فلا يرى التعليق إلا على ما يتصل بتصحيح ما بها من خطأ فقط، أما التراجم والشروح فتوضع في ملاحق آخر الكتاب، فإذا تعذر فليقتصر في الترجمة على ذكر الوفاة ومصدر الترجمة. ثم ذكر أنه يجب إثبات السماعات والإجازات بنصها، ويقدم لها بموجز بحرف صغير يبين فيه اسم المسمع وعدد السامعين واسم القارئ ومثبت السماع، ومكان السماع، وتاريخه. ثم ذكر أهمية الفهارس وأن غايتها تيسير الاستفادة من الكتاب، وأنها تختلف باختلاف موضوع الكتاب، وأنه ينبغي ألا يغالى فيها، وأن الفهارس التقليدية هي: فهارس الأعلام، والأماكن، والبلدان، والكتب الواردة في النص، ثم يجعل في كل كتاب ما يستوجبه موضوعه. وذكر وضع مقدمة للكتاب تتضمن الكلام عن موضوع الكتاب وما ألف فيه، وشأنه بين الكتب التي ألفت في موضوعه، وترجمة المؤلف ومصادر ترجمته، ووصف المخطوطات المعتمدة وصفا دقيقا ذاكرا كل ما عليها من سماعات وعناوين وتملكات وأوقاف وعدد الأوراق ومقاسها ونوع الخط ورسم الناسخ واصطلاحاته، مثبتا صورا لأول المخطوطات. ثم يذكر المحقق في آخر الكتاب مسردا للمراجع التي رجع إليها في المقدمة أو في حواشي الكتاب بادئا باسم الكتاب أو اسم المؤلف. ثم ختم القواعد مؤكدا أنها ليست تقليدا أعمى للمستشرقين، وليس فيها فوضى وانعدام في المنهج.

المطلب الثالث: ما دار بين الشيخين وأسبابه:

يظهر من ترجمة الشيخ عبد السلام هارون والدكتور المنجد، أننا إزاء علمين من أعلام التراث في العصر الحديث، في مرحلة هي من أهم المراحل التي نضج فيها علم التحقيق واستوت قواعده. ويظهر أيضا من عرض الكتابين أنهما ألفا في زمن متقارب، فالشيخان كانا متعاصرين، وقد تعرض الدكتور المنجد في مقدمة قواعده لنقد كتاب الشيخ هارون مصرحا بذلك، في حين عرض الشيخ هارون بالدكتور المنجد ولم يذكر اسمه صريحا. وما دار بينهما- وهما قرنان متعاصران شيخان جليلان- لا يعدو أن يكون من كلام الأقران بعضهم في بعض، الذي ينبغي أن يطوى ولا يروى، ولا نخوض فيه. إلا أن الذي دار بين الشيخين له أسباب قد تدعو إلى الوقوف عنده قليلا لكون هذه الأسباب غير شخصية في الغالب.

وقبل أن نفسر ذلك الذي وقع يحسن بنا أن نورد ما قاله كل منهما بنصه: بدأ الدكتور المنجد فنقد كتاب الشيخ هارون في «قواعده» في حديثه عن المحاولات السابقة؛ قائلا: «...أما من الأفراد الذين كتبوا في قواعد نشر النصوص، فنجد الدكتور محمد مندور، والأستاذ عبد السلام هارون.... وأفرد الثاني كتابا سماه «تحقيق النصوص ونشرها» ضمنه محاضرات ألقاها على طلبة دار العلوم فيها تبسيط ومعارف كثيرة مختلفة. فقد تحدث عن «كيف وصلت إلينا الثقافة العربية» وعن «الورق والوراقين» وعن «الخطوط». وقد صدر عن هذه الموضوعات في السنوات الأخيرة بحوث أكثر عمقا وأغزر مادة لم يفد منها المؤلف، ثم تحدث عن «أصول النصوص» و«التحقيق» و«التصحيف والتحريف» و«معالجة النصوص» و«المكملات الحديثة» وغير ذلك مما يحتاج إليه المبتدئ في النشر. ويؤخذ على المؤلف أنه لم يطلع قط على ما كتب في هذا الموضوع باللغات الأجنبية ليكون كتابه تاما والنهج الذي يدعو إليه كاملا، وأنه خلط بين قواعد تحقيق النصوص والعلوم المساعدة على التحقيق؛ كعلم الخطوط، أو علم المصادر، وغير ذلك. والمعروف أن هذين العلمين يدرسان دراسة طويلة على منهج علمي، ولا يمكن إيفاؤهما حقهما بصفحات». انتهى كلامه بحروفه.

وقد رد الشيخ هارون فقال في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه- وكانت في عام 1965م-:

((هذه هي الطبعة الثانية من «تحقيق النصوص ونشرها» أقدمها مغتبطا بها وبما كان لسابقتها من صدى متواضع في أرضنا العربية، بله بلاد المستشرقين الذين كتبوا إلي مهنئين، وإن كان بعض إخواننا الدمشقيين ممن كنا نتوسم فيه النجابة- زعم بضعف نفسه، وبما يشعر به أمثاله من ذلة علمية- أني لم أطلع على ما كتب المستشرقون، فوضع بذلك على هامتي إكليلا أعتز به، إذ أمكنني بعون الله وحده أن أضع علما متكاملا لم أسبق إليه، دون أن أتطفل على مائدة كثيرا ما وضع فيها للعرب صحاف مسمومة، وموائد أسلافنا العرب حافلة بالجهود الوثيقة، والأمانة العلمية المرموقة. «فمن تجارب هؤلاء العرب الأمناء في هذا المجال الأمين، ومن تجاربي الخاصة التي حاولت فيها ترسم خطاهم الطاهرة، زهاء أربعين عاما، ومما رأيت وسمعت في انتباه ويقظة، أمكنني في هذا المجال الذي حافظ على القرآن الكريم وهو ما هو، وأحاديث الرسول وهي ما هي، أن أتخلص من إسار سادة هؤلاء الضعفاء، الذين لا يضعون قدما على قدم حتى تصدر إليهم إشارة بإصبع من زعماء هذا الاستعمار الثقافي. «إن المستشرقين إخواننا وشركاؤنا، ولكن ليس من الحكمة ولا الكرامة في شيء أن تكون خطانا متأثرة بخطاهم في كل أمر من أمورنا الثقافية، وأن نستعير عقولهم في صغار الأذلاء، وقد منحنا الله القدرة وحسن الفهم والدرس لما كتب بلغتنا وبوحي نفوسنا العربية. «وإن أعجب فإنه ليشتد عجبي ممن يتغنى بفضل سادته هؤلاء، وينكر فضل أخيه العربي، ثم يزعم لنفسه كتابا يستخلص مادته وألفاظه وتنسيقه من كتابي هذا! عفا الله عنه، وألهمنا وإياه الهداية والتوفيق)). انتهى كلامه بحروفه.

وقد استغرق هذا الكلام مقدمة الطبعة الثانية كلها.

ولقد كان بين كلام الدكتور المنجد ورد الشيخ هارون أكثر من عشر سنوات! وهي مدة كانت كفيلة بإزالة ما بينهما إلا أنه يبدو أن هناك من أجج الخلاف ووسع الهوة بينهما. ولأنه ليس بين يدي من معلومات عما دار بينهما إلا ما كتباه في كتابيهما، فسأقتصر على تحليل ما كتباه لاستنتاج أسباب الخلاف بينهما.

ونرجع الآن لنقل رد الدكتور المنجد على رد الشيخ هارون:

يقول الدكتور المنجد في مقدمة الطبعة الرابعة لـ«قواعده»- في عام 1970م- بعد أن ذكر قبولها عند كبار العلماء وكثرة ترجماتها إلى لغات مختلفة-:

((ولا بد أن نشير هنا إلى أمر يجب التنويه به، فقد كنا ذكرنا في الطبعة الأولى أن من السابقين لنا في وضع قواعد النشر الدكتور محمد مندور، والأستاذ عبد السلام هارون. وأخذنا على الأستاذ هارون أنه لم يطلع على الطرق التي وضعها المستشرقون لنشر المخطوطات. ومن المبادئ التي نلقنها تلاميذنا أن على الباحث، عندما يتصدى إلى بحث ما، أن يطلع على كل ما كتب فيه، وهذا لم يفعله الأستاذ هارون. وأخذنا عليه أنه لم يميز قواعد تحقيق المخطوطات من العلوم المساعدة على التحقيق، فجاء بحثه خليطا من كل شيء، لا منهج فيه ولا تنسيق، وقد اطلع يومئذ على ما كتبناه ووافقنا عليه. فقد كان يتردد علينا في معهد المخطوطات فنقدم له كل عون، وكنا نوصي به خيرا لاطلاعه على الأصول العربية وتعمقه في معرفة اللغة. حتى إننا اقترحنا على وزارة الثقافة والإرشاد بالكويت عندما كنا نشرف على سلسلة التراث العربي التي تصدرها أن تكل إليه تحقيق كتابين في السلسلة قدمناهما للقراء بأنفسنا. ثم استقلنا من معهد المخطوطات وانقطعت الصلة بيننا. وكنا نظن أن ود الأستاذ هارون باق، لكننا فوجئنا أنه أصدر لقواعده في نشر النصوص طبعة ثانية وشتمنا في مقدمتها شتما يدل على بلاهة وقلة أدب وقلة وفاء. لأننا أخذنا عليه عدم الإحاطة بالبحث، وفقدان المنهج العلمي عنده. ونوصي القراء أن يقرؤوا ما كتبه. لقد كنا نرحب بالانتقاد لو انتقدنا أو نبهنا إلى خطأ وقعنا فيه، ونكون شاكرين له فضله، فبالنقد البريء تعرف الحقيقة، لكنه انزلق إلى ما يجب أن يترفع عنه العلماء. فالشتم سلاح المغيظ الحانق العاجز. ومثله وهو في شيخوخته، ينبغي أن يكون أنبل خلقا وأسمى مكانة. فالله يغفر له)). انتهى كلامه بحروفه.

وبنظرة متأملة للنقد الأول الذي أخذه الدكتور المنجد على الشيخ هارون، نجده انتقده في ثلاثة أمور: الأول: عدم اطلاعه على ما كتبه المستشرقون. الثاني: خلطه بين قواعد التحقيق والعلوم المساعدة. الثالث: البسط والشرح. وهذا نقد علمي، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه فيه، أو صدقه في المنتقد من عدمه.

أما الأمر الأول فمندفع بذكر الشيخ هارون أنه حاول الاطلاع على محاضرات (برچستراسر) فلم يوفق([31])، وبأنه كان على اطلاع- في الجملة- على أعمال المستشرقين وعلى دراية بها ودراسة، بل على صلة وثيقة بهم وقد كتبوا إليه مهنئين بصدور كتابه موضوع البحث([32])، ويظهر اطلاعه على أعمالهم ودرايته بها من كلامه على ثقاتهم وذكره بعض أسمائهم([33])، وثنائه عليهم واعترافه بسبقهم في تنويع الفهارس وتوسيعها واهتمامهم بها([34])، اللهم إلا أن يكون قصد الدكتور المنجد أن يطلع الشيخ على مناهج المستشرقين الألمان وجمعية (غيوم بوده) الفرنسية. وقد ذكرنا في التحليل أن عدم اطلاعه على أعمال المستشرقين الخاصة بتقعيد قواعد تحقيق المخطوطات ضارة نافعة([35])، ومما يؤكد أن محاضرات (برچستراسر) لم تكن متاحة آنذاك أن الدكتور المنجد نفسه لم يشر إليها من قريب أو بعيد في كتابه، وإلا فبالإمكان توجيه النقد ذاته للدكتور المنجد. إلا أن يقال: إن قصد الدكتور أن يطلع الشيخ على كتابات المستشرقين بلغاتهم الألمانية والفرنسية.

أما الأمران الثاني والثالث، فهما محاكمة من الدكتور المنجد لكتاب الشيخ هارون قياسا إلى كتابه «قواعد تحقيق المخطوطات». فعنوان كتاب الشيخ يتيح له أن يكون فيه بسط وشرح وأمثلة؛ إذ إنه لم يذكر أنه بصدد وضع قواعد مجردة- كما فعل الدكتور المنجد في قواعده- ثم شرح وبسط، حتى نوجه له مثل هذا النقد، أي أن مادة الكتاب مناسبة لعنوانه غير خارجة عليه خروجا يجعله منعدم المنهج. ولو أن الأمر لم يعد هذه الانتقادات لكان سهلا ميسورا، لكن الواقع أن مدح الدكتور المنجد للمستشرقين ومناهجهم ووصفه من لم يسر على منهجهم من المحققين العرب بالإخفاق وفقدان المنهج العلمي- فيه مغالاة في المستشرقين وغمط لإخوانه العرب حقوقهم([36])، وكان في تلك الآونة كبار المحققين الذين عدهم العلماء «مشايخ المحققين» وقد ذكرهم الدكتور الطناحي في كتابه «مدخل إلى تاريخ نشر التراث»([37]).

ويبدو أن هذا هو ما أثار حفيظة الشيخ هارون، فعبر بكلماته اللاذعة في رده على الدكتور المنجد، لكن مما يحفظ للشيخ أن نقده هذا وإن كان لاذعا إلا أنه لم يذكر المنتقد باسمه، وفي هذا أدب جم، كما أنه لم يسبه أو يشتمه شتما شخصيا- كما يفهم من كلام الدكتور المنجد – وإنما خص منه الناحية العلمية؛ فنفي النجابة وإثبات الذلة العلمية إنما هو من الناحية العلمية فحسب. ثم أخذ الشيخ يؤكد على فكرة التحرر من التبعية الغربية للمستشرقين وغيرم. وقد اتهم الشيخ هارون الدكتور المنجد بأنه استخلص مادة قواعده وألفاظها من كتابه، وهذا أمر تنفيه المقارنة بين الكتابين، وهو مبالغة من الشيخ هارون.

أما رد الدكتور المنجد الأخير ففيه مبالغة في الشتم؛ إذ تجاوز الأمر عنده المسألة العلمية إلى المسألة الشخصية البحتة، فإن كنا استطعنا أن نحمل كل كلام الشيخ هارون- أو بعضه- في الدكتور المنجد على الجانب العلمي دون الشخصي- خولفنا أو ووفقنا في ذلك- فلا يمكن أن يحمل كلام الدكتور المنجد في الشيخ هارون ذلك المحمل؛ فالبلاهة وقلة الأدب وقلة الوفاء كلها صفات شخصية لا تتصل بالجانب العلمي، ولعمر الله لقد وقع بذلك الدكتور المنجد فيما اتهم به الشيخ هارون بقوله: «لكنه انزلق إلى ما يجب أن يترفع عنه العلماء. فالشتم سلاح المغيظ الحانق العاجز. ومثله وهو في شيخوخته، ينبغي أن يكون أنبل خلقا وأسمى مكانة».

إضافة إلى أن الدكتور المنجد قد من على الشيخ هارون بما كان يصنعه معه في معهد المخطوطات بمصر وأنه كان يقدم «له كل عون، وكنا نوصي به خيرا... حتى إننا اقترحنا على وزارة الثقافة والإرشاد بالكويت... أن تكل إليه تحقيق كتابين في السلسلة قدمناهما للقراء بأنفسنا». ولقد كان يكفي هذ المن، إلا أن الدكتور أتبعه بالشتم الشخصي الذي ذكر أن الشيخ هارون (انزلق) إليه. ونعود الآن إلى قضية مهمة لدى الدكتور المنجد؛ وهي في وجهة نظري سبب استعار الخلاف بينهما واشتداده، وهي تمجيد الدكتور المنجد للمستشرقين وأعمالهم، وباختصار شديد فإن من يطلع على ما ذكره الدكتور المنجد من كلامه حول تغريب التراث([38]) يجد من حرصه على تراث أمته ومحاربة تغريبه ما يدفع عنه الانسياق الأعمى وراء المستشرقين، ولكنها مبالغته في قوله من قبل في قواعده: «وكان على ناشري النصوص من العرب اتباع الطريقة العلمية التي يتبعها المستشرقون، والاطلاع على قواعدهم واقتباسها أو اقتباس الجيد منها».

أما الاعتراف بفضل المستشرقين في السبق إلى تراثنا فلم يخالفه فيه أحد، وقد اعترف به الشيخ هارون وغيره من شيوخ المحققين العرب. وهكذا يتضح أن الخلاف بينهما منشؤه في البداية اختلاف وجهات النظر حول المنهج؛ فالدكتور المنجد يرى وجوب اتباع المستشرقين والاطلاع على أعمالهم، والشيخ هارون يرى أنه ما دام المنهج موجودا لدينا فلم نستعيره من غيرنا معترفا في الوقت نفسه بفضل المستشرقين وسبقهم. وكما سبق فإن مثل هذا الخلاف لا شيء فيه لولا تأججه بمبالغة الدكتور وشدة دفاع الشيخ، وربما كان بينهما من زاد الهوة بينهما.

وفي الختام نذكر كلام الإمام الذهبي في كلام الأقران بعضهم في بعض: «كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم»([39]).

المبحث الثاني المقارنة بين الكتابين نوجز نقاط الاتفاق والاختلاف بين الكتابين فيما يلي:

أولا- أوجه الاتفاق:

1- كلا الكتابين مؤلفه عالم جليل ذو باع طويل في العناية بالتراث وتحقيقه والعلوم اللغوية والأدبية.

2- كلاهما مبني على تجارب سابقة وخبرات طويلة.

3- اتفقا في ذكر قواعد تحقيق النصوص وأسسه، واختلفا في طريقة عرضها، كما سيأتي.

4- اتفقا على فضل المستشرقين وسبقهم في التنبيه على تحقيق التراث في العصر الحديث.

5- اتفقا على عدم الإسراف في التعليق على النص. 6- اتفقا على عدم الإسراف في صنع الفهارس.

ثانيا- أوجه الاختلاف:

1- كتاب الشيخ هارون عام في موضوع تحقيق النصوص ونشرها وما يتصل بذلك من أدوات ومقدمات، فهو كتاب تعليمي بالدرجة الأولى، تطرق فيه الشيخ إلى أمور دقيقة في علم التحقيق. - في حين أن كتاب الدكتور المنجد خاص بالقواعد العامة للتحقيق والنشر فقط.

2- كتاب الشيخ فيه بسط وشرح. - وكتاب الدكتور شديد الإيجاز والتركيز ملتزم بعنوانه أشد الالتزام.

3- كتاب الشيخ هارون يغلب عليه الأسلوب العلمي المتأدب. - كتاب الدكتور طابعه علمي فيه جفاف، وقواعده أشبه بالقانون، تتلاحق مواده في ترتيب منطقي وإيجاز شديد([40]).

4- كتاب الشيخ به الكثير من الأمثلة الشارحة الموثقة. - كتاب الدكتور يخلو من الأمثلة بسبب طبيعته الموجزة المكثفة.

5- يرى الشيخ أنه لا داعي لاستعارة مناهج المستشرقين ما دام المنهج موجودا عندنا محكما ومطبقا. - يرى الدكتور وجوب اتباع مناهج المستشرقين واقتباس قواعدهم.

6- يرى الشيخ ضرورة التعليق على النص بما يفيد في توضيح غامضه وإزالة إشكاله، على جانب فروق النسخ وتصويب الأخطاء. - ويرى الدكتور ترك التعليق على النص إلا بذكر فروق النسخ وتصويب الأخطاء.

7- لم يذكر الشيخ مسألة كثرة النسخ وتقسيمها إلى فئات. - وقد ذكر ذلك الدكتور.

8- ذكر الدكتور أشياء في كتابة الأحاديث؛ كاختصار ألفاظ التحديث الموجودة في لسند، وكتابة السند بخط صغير والمتن مع آخر راو في سطر جديد. - ولم يتعرض الشيخ لها ولا أراه يقرها خاصة اختصار الفاظ التحديث، لإخلالها بالأمانة. والوجه أن تذكر كما هي في النسخة إن كاملة وإن مختصرة.

9- يخاطب الشيخ في الكتاب المبتدئ في أمر التحقيق ومن فوقه. - ويخاطب الدكتور المنجد من كان لديه إلمام بمقدمات التحقيق ولوازمه والعلوم المساعدة عليه.

الخاتمة

بعد هذا التطواف في رحاب الشيخ هارون وكتابه «تحقيق النصوص ونشرها»، نستطيع أن نقول:

إن الشيخ هارون استحق ريادة هذا العلم الجليل؛ بمنهجه المحكم وأسلوبه العلمي الأدبي في آن، واستقائه من معين التراث ذاته، يفيد منه ليفيده، وأسلوبه التربوي التعليمي الرائع.

وقد تجلى بوضوح استيعابه لمناهج الأولين في التحقيق وتقييد العلوم، وعدم بعده عن المناهج الحديثة لا سيما مناهج المستشرقين، ووعيه القوي بقضايا أمته ومحاربته من أجلها، وأن كل من ألف بعده في موضوعه لم يخرج عما وضعه في كتابه، وأنه بتأليفه كتابه هذا في ذلك الوقت وضع الأمور في نصابها، وحق لنا أن نقول: «وهذه بضاعتا ردت إلينا»؛ فالكتاب عربي قح، وإنما أخذ المستشرقون قواعد أسلافنا المتقدمين.

كما ظهر من الكتاب أن مؤلفه شيخ جليل له باع طويل في هذا الفن، وقد ألفه بعد تجارب طويلة في معالجة أمور التحقيق.

أكثر الشيخ من النماذج التطبيقية التي يعرضها لشرح أفكاره وتأكيدها، وغالبها من أعماله التي اضطلع بها على مدى 50 عاما. فصار الكتاب نبراس هداية لمن يريد تعلم التحقيق خطوة خطوة منذ أن يفكر في تحقيق كتاب بعينه حتى يطبع الكتاب، ويوجهه إلى كيفية التفكير فيما يعرض له من مشكلات وكيف يحلها. ينبه الشيخ على دقائق الأمور وشرح كيفية معالجتها بطرق شتى.

كما ظهر أن الشيخ غير جامد على المنهج، بل إنه مرن، يعلم قارئه كيف يتعامل مع التراث بمرونة، وفي الوقت نفسه بحذر وحيطة وعدم اجتراء.

كما أن الدكتور المنجد ألف كتابه على ضوء خبرة طويلة وممارسة كثيرة للتحقيق وأمور المخطوطات، إلا أنه استقى أكثر مادته عن الغرب، وجاء الكتاب في خجمه ومادته مناسبا كل المناسبة لعنوانه فهو قواعد مجردة خالية من الشرح والتمثيل، كما أنه يخاطب من كان ملما بمقدمات التحقيق والعلوم المساعدة عليه، فقواعده أشبه بالقانون في تلاحق مواده وإيجازها الشديد.

المصادر والمراجع

الإثنينية 36، (اثنينية عبد المقصود الخوجة) حفل تكريم الدكتور صلاح الدين المنجد، في مدينة جدة، عام 1405هـ/1985م.

أحمد العلاونة؛ «ذيل الأعلام»، دار المنارة للنشر والتوزيع، جدة، ط1، 1418هـ/1998م.

أحمد مطلوب؛ «نظرة في تحقيق الكتب.. علوم اللغة والأدب»، مجلة معهد المخطوطات العربية، الكويت، مج1، ج1، ربيع الأول- شعبان 1402هـ، يناير- يونيو 1982م.

برچستراسر؛ «أصول نقد النصوص ونشر الكتب»، إعداد وتقديم د. محمد حمدي البكري، دار المريخ، الرياض، طبعة 1402هـ/ 1982م.

الجاحظ، أبو عمرو عثمان بن بحر الجاحظ؛ «البيان والتبيين»، تحقيق الشيخ عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط7، 1418هـ/1998م.

الذهبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي؛ «ميزان الاعتدال في نقد الرجال»، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت.

السخاوي، شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي؛ «فتح المغيث بشرح ألفية الحديث»، تحقيق عبد الكريم الخضير ومحمد الفهيد، دار المنهاج، الرياض، ط1، 1426هـ. شوقي ضيف؛ البحث الأدبي، ط7، دارالمعارف، القاهرة.

ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح؛ «معرفة أنواع علوم الحديث» المطبوع باسم «مقدمة ابن الصلاح»، طبعة محمد راغب الطباخ، حلب، ط1، 1350هـ/1931م.

صلاح الدين المنجد؛ «قواعد تحقيق المخطوطات»، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط7، 1987م.

عبد السلام محمد هارون؛ «قطوف أدبية.. دراسات نقدية في التراث العربي، حول تحقيق التراث»، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/1988م.

عصام محمد الشنطي؛ «صلاح الدين المنجد والمخطوطات والتغريب»، مجلة معهد المخطوطات العربية، مج35، ج1، 2، جمادى الآخرة- ذو الحجة 1412هـ/يناير- يوليو 1991م.

عصام محمد الشنطي؛ «جهود المنجد في خدمة التراث»، بمجلة العرب، ج1و2، س40، رجب وشعبان 1425هـ، أيلول وتشرين الأول (سبتمبر وأكتوبر) 2004م.

مجلة مجمع اللغة العربية الأردني، ع34، س12، جمادى الأولى- شوال 1408هـ، كانون الثاني (يناير)- حزيران (يونيو) 1988م.

محمد خير رمضان يوسف؛ «تتمة الأعلام»، دار ابن حزم، بيروت، ط2، 1422هـ/2002م.

محمد مندور؛ «في الميزان الجديد»، ط1، 1988م، مطبعة كوتيب، تونس، نشر وتوزيع مؤسسات ع.بن عبدالله.

محمد مهدي علام؛ «المجمعيون في خمسين عاما»، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، 1406هـ/1986م.

محمود الأرناؤوط؛ «أعلام التراث في العصر الحديث»، مكتبة دار العروبة، الكويت؛ ودار ابن العماد، بيروت، ط1، 1422هـ/2001م.

محمود محمد الطناحي؛ «مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي»، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1405هـ/ 1984م.

مصطفى يعقوب عبد النبي؛ «التعليق على النص في التراث العلمي.. الكيفية والضرورة»، مجلة الأحمدية، ع12، رمضان 1423هـ.

نزار أباظة؛ ومحمد رياض المالح؛ «إتمام الأعلام»، دار صادر، بيروت، ط1، 1999م.

هلال ناجي؛ «من قواعد التحقيق العلمي: توثيق عنوان المخطوط وتحقيق اسم مؤلفه»، مجلة المورد، مج21، ع1، 1993م.

وديعة طه النجم وعبده بدوي؛ «الأستاذ عبدالسلام هارون، معلما ومؤلفا ومحققا»، الكويت، جامعة الكويت، 1410هـ.

الحواشي

([1]) ينظر في ترجمته: محمد مهدي علام؛ «المجمعيون في خمسين عاما»، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، 1406هـ/1986م، ص163-165. أحمد العلاونة؛ «ذيل الأعلام»، دار المنارة للنشر والتوزيع، جدة، ط1، 1418هـ/1998م، ص119-120. نزار أباظة؛ ومحمد رياض المالح؛ «إتمام الأعلام»، دار صادر، بيروت، ط1، 1999م، ص154. محمد خير رمضان يوسف؛ «تتمة الأعلام»، دار ابن حزم، بيروت، ط2، 1422هـ/2002م، ص290-294. محمود محمد الطناحي؛ «مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي»، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1405هـ/ 1984م، ص97-99. محمود الأرناؤوط؛ «أعلام التراث في العصر الحديث»، مكتبة دار العروبة، الكويت؛ ودار ابن العماد، بيروت، ط1، 1422هـ/2001م، ص169-171. وتوجد نبذة عنه في «مجلة مجمع اللغة العربية الأردني» ع34، س12، جمادى الأولى- شوال 1408هـ، كانون الثاني (يناير)- حزيران (يونيو) 1988م، ص326-328. وللشيخ ترجمات في كتب ومجلات أخرى لم يتيسر لي الاطلاع المباشر عليها؛ أهمها: كتاب «الأستاذ عبدالسلام هارون، معلما ومؤلفا ومحققا»، تأليف وديعة طه النجم وعبده بدوي، الكويت، جامعة الكويت، 1410هـ؛ وكتاب «موسوعة أعلام مصر».

([2]) عبد السلام محمد هارون؛ «قطوف أدبية.. دراسات نقدية في التراث العربي، حول تحقيق التراث»، مكتبة السنة، القاهرة، ط1،= =1409هـ/1988م، ص45.

([3]) المرجع السابق، ص95-96.

([4]) محمود محمد الطناحي؛ «مدخل إلى تاريخ نشر التراث»، مرجع سابق، ص90، والمراحل الأربعة في ص31-121.

([5]) محمود محمد الطناحي؛ «مدخل إلى تاريخ نشر التراث»، مرجع سابق، ص99.

([6]) «تحقيق النصوص ونشرها»، مرجع سابق، ص7.

([7]) شوقي ضيف؛ البحث الأدبي، ط7، دارالمعارف، القاهرة، ص185-187. أحمد مطلوب؛ «نظرة في تحقيق الكتب.. علوم اللغة والأدب»، مجلة معهد المخطوطات العربية، الكويت، مج1، ج1، ربيع الأول- شعبان 1402هـ، يناير- يونيو 1982م، ص10-13.

([8]) شوقي ضيف؛ البحث الأدبي، مرجع سابق، ص187.

([9]) أشار إليها الدكتور المنجد في كلمة ألقاها في الاحتفاء به في إثنينية الخوجة في مدينة جدة، عام 1405هـ/1985م، وأكدها وأشاد بالتنبيه عليها د. عصام محمد الشنطي في مقال «صلاح الدين المنجد والتراث والتغريب» في مجلة معهد المخطوطات العربية، مج35، ج1، 2، جمادى الآخرة- ذو الحجة 1412هـ/ يناير- يوليو 1991م، ص202-208.

([10]) الطبعة التي اطلعت عليها: الطبعة الأولى، 1988م، مطبعة كوتيب، تونس، نشر وتوزيع مؤسسات ع. بن عبد الله.

([11]) برچستراسر؛ «أصول نقد النصوص ونشر الكتب»، إعداد وتقديم د. محمد حمدي البكري، دار المريخ، الرياض، طبعة 1402هـ/ 1982م، مقدمة د. البكري، ص11-13. صلاح الدين المنجد؛ «قواعد تحقيق المخطوطات»، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط7، 1987م، ص9-11. أحمد مطلوب؛ «نظرة في تحقيق الكتب.. علوم اللغة والأدب»، مرجع سابق، ص14-16.

([12]) «تحقيق النصوص ونشرها»، ص7.

([13]) في المطلبين الأول والثاني من المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا البحث.

([14]) هلال ناجي؛ «من قواعد التحقيق العلمي: توثيق عنوان المخطوط وتحقيق اسم مؤلفه»، مجلة المورد، مج21، ع1، 1993م، ص41.ومصطفى يعقوب عبد النبي؛ «التعليق على النص في التراث العلمي.. الكيفية والضرورة»، مجلة الأحمدية، ع12، رمضان 1423هـ، ص267. وأحمد مطلوب؛ «نظرة في تحقيق الكتب.. علوم اللغة والأدب»، مرجع سابق، ص15. وقد شهد له بذلك كثيرون؛ ومما يدل على ذلك شهرته بـ«شيخ المحققين».

([15]) في المطلب الثالث من المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا البحث.

([16]) في حين عده الدكتور المنجد من التجار الذين كانوا يأخذون المخطوطات من بيوت العلماء بعد وفاتهم ويبيعونها لبعض المستشرقين، ذكر ذلك في كلمته التي ألقاها في حفل الاحتفاء به في إثنينية الخوجة، في جدة، 1405هـ/1985م، وأكد ذلك بمثال د. عصام محمد الشنطي في مقاله: «صلاح الدين المنجد والتراث والتغريب» في مجلة معهد المخطوطات العربية، مج35، ج1، 2، مرجع سابق، ص203-204.

([17]) استغرقت هذه العناوين التمهيدية 18 صفحة؛ من ص11 إلى ص28.

([18]) لأهميته ألف فيه الأستاذ هلال ناجي مقالا نشره بمجلة المورد، مج21، ع1، 1993م، ص41-49. فصل فيه ما أجمله الشيخ.

([19]) لم أحسب صفحة العنوان ولاما تلاها حتى بداية المقدمة، ولا الفهارس.

([20]) وقد أثنى في كتابه هذا على غير (برچستراسر)، وسمى منهم عددا، ووصفهم بـ«أعلام المستشرقين الثقات»، ووصف طبعاتهم للكتب التي نشروها- إن لم نظفر بأصولها- بأنها رواية ينتفع بها؛ لأنهم منزلون بمنزلة الرواة الثقات. «تحقيق النصوص ونشرها»، ص31-32. وقد اقتدى به تلاميذه من بعده؛ انظر ما كتبه الدكتور محمود محمد الطناحي عن دور المستشرقين ومناهجهم وملاحظاته المنصفة لهم وعليهم، في كتابه: «مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي»، مرجع سابق، ص206-283.

([21]) «تحقيق النصوص ونشرها»، ص33. وأبو عمرو عثمان بن بحر الجاحظ؛ «البيان والتبيين»، تحقيق الشيخ عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط7، 1418هـ/1998م، ج1، ص16-17، 21.

([22]) برچستراسر؛ «أصول نقد النصوص ونشر الكتب»، مرجع سابق، توطئة بقلم الدكتور عبد الستار الحلوجي، ص (ح). والجدير بالذكر أن المسألة عند (برچستراسر) فيها تفصيل وليست كما ذكر الدكتور الحلوجي، ينظر: ص28، من الكتاب نفسه.

([23]) ذلك أن التحقيق العلمي علم عربي أصيل، فكوننا نكتب في قواعده ونحن عالة على الغرب أمر سيئ، وقد مر أن الشيخ حاول الاطلاع على محاضرات برچستراسر فلم يوفق، ورب ضارة نافعة!

([24]) هي أمور لاحظتها في قراءتي للكتاب ومعالجة عرضه وتلخيصه وتحليله، وقد يتفق معي فيها أو أخالف في كلها أو أكثرها.

([25]) في أول المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا البحث، في الحاشية.

([26]) أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح؛ «معرفة أنواع علوم الحديث» المطبوع باسم «مقدمة ابن الصلاح» طبعة محمد راغب الطباخ، حلب، ط1، 1350هـ/1931م، ص182.

([27]) شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي؛ «فتح المغيث بشرح ألفية الحديث»، تحقيق عبد الكريم الخضير ومحمد الفهيد، دار المنهاج، الرياض، ط1، 1426هـ، ج3، ص85-86.

([28]) وقد جاء ذلك في «قواعد تحقيق المخطوطات» للدكتور المنجد، ص21، وغيره من الكتب.

([29]) محمود محمد الطناحي؛ «مدخل إلى تاريخ نشر التراث»، مرجع سابق، ص294-297.

([30]) ترجمة شخصية للدكتور المنجد ألقاها في الاحتفاء به في اثنينية عبد المقصود الخوجة، بمدينة جدة، عام، ومن كلمات ألقاها بعض المشاركين. وللدكتور عصام محمد الشنطي مقالان عن الدكتور المنجد: الأول: «جهود المنجد في خدمة التراث»، بمجلة العرب، ج1و2، س40، رجب وشعبان 1425هـ، أيلول وتشرين الأول (سبتمبر وأكتوبر) 2004م، ص73-88. والثاني: «صلاح الدين المنجد والمخطوطات والتغريب»، مجلة معهد المخطوطات العربية، مرجع سابق، ص197-212.

([31]) «تحقيق النصوص ونشرها»، ص7.

([32]) السابق، ص8.

([33]) السابق، ص31-32.

([34]) السابق، ص92.

([35]) راجع أول المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا البحث، وحاشيته.

([36]) سأفرد هذه القضية عند الدكتور المنجد بعد قليل.

([37]) محمود محمد الطناحي؛ «مدخل إلى تاريخ نشر التراث»، مرجع سابق، ص206-283.

([38]) ذكر ذلك الدكتور في كلمته التي ألقاها في حفل تكريمه في إثنينية الخوجة، وأكد عليها وناقشها د. عصام محمد الشنطي في مقاله «صلاح الدين المنجد والمخطوطات والتغريب»، مجلة معهد المخطوطات العربية، مرجع سابق، ص202-212.

([39]) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي؛ «ميزان الاعتدال في نقد الرجال»، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، ج1، ص111.

([40]) عصام محمد الشنطي؛ «جهود المنجد في خدمة التراث»، مجلة العرب، مرجع سابق، ص83.