تخاطر فعّال

برمهنسا يوغانندا



دخلت الصومعة وقدّمت بكل اعتزاز إلى معلمي سري يوكتسوار سلة من الخضر قائلا:

"هذه هدية لك يا سيدي! فهذه القرنبيطات الست الكبيرة زرعتها بيدي ورعيتها خلال مراحل نموها بحنان الأم لطفلها الرضيع."

وأجابني سري يوكتسوار بابتسامة ملؤها التقدير قائلا: "أشكرك. رجاء الاحتفاظ بها في حجرتك، سأحتاجها غدا في إعداد عشاء خاص."

وكنت قد وصلت للتو إلى مدينة بوري لقضاء العطلة الصيفية بصومعة معلمي الساحلية. وهذه الخلوة ذات الطابقين والجو البهيج تطل على خليج البنغال، وقد بناها المعلم بمساعدة تلاميذه.

استيقظت باكراً في الصباح التالي، منتعشاً بنسيم البحر المالح وسحر الصومعة الهادئ. وسمعت المعلم يناديني بصوته الرخيم فألقيت نظرة على القرنبيطات المشبعة بالحب والحنان، ثم صففتها بعناية تحت سريري.

وقال المعلم: "هيا بنا إلى الشاطئ." وسار في المقدمة وسرت في إثره مع مجموعة من الطلبة الصغار، فنظر إلينا المعلم نظرة عتاب وقال:

"أرجو أن تسيروا في صفين مع المحافظة على اتزان خطواتكم مع بعضها البعض."

ثم تفحصنا ونحن نمتثل له وراح ينشد ما معناه:

يا صِبية ً شِدّوا الهممْ وامشوا بصفٍ منتظمْ

وقد أعجبت بالسلاسة التي مكـّنت المعلم من مجاراة الخطوات الرشيقة لطلبته الصغار.

ونظر المعلم في عينيَّ قائلا: "قف! هل أغلقت الباب الخلفي للصومعة؟"

أجبته "أظن ذلك يا سيدي."

ظل سري يوكتسوار صامتا لبضع دقائق، وقد تراقصت على شفتيه ابتسامة شبه مكبوتة، ثم قال أخيرا:

"كلا، لقد أغفلت ذلك. والتأمل المقدس يجب عدم اتخاذه ذريعة لإهمال القيام بالوجبات المادية."

حسبته يمزح لكنه أضاف: " إن قرنبيطاتك الست ستصبح خمساً عما قليل."

عدنا أدراجنا عملا بطلب المعلم، وعندما اقتربنا من المنسك قال:

"تريثوا قليلا. أنظر يا موكندا (برمهنسا) إلى يسارك عبر صحن الدار إلى الطريق. إن شخصاً ما سيأتي إلى هناك حالا وسيكون السبب في عقابك."

أخفيت انزعاجي لهذه الملاحظات المبهمة. وفجأة رأيت في الطريق قرويا يرقص بكيفية غريبة ويحرك ذراعيه بإيماءات لا معنى لها. كدت أصعق من شدة الفضول وقد حدّقت تحديقاً متواصلا في المنظر المضحك للغاية. وحينما أوشك الرجل على الاختفاء من أمام أبصارنا قال سري يوكتسوار: "الآن سيعود."

وعلى الفور غيّر القروي خط سيره واتجه نحو الجهة الخلفية للصومعة، وإذ اجتاز درباً رمليا دخل المبنى من الباب الخلفي الذي لم أكن قد أقفلته، تماماً مثلما قال معلمي. وبعد قليل خرج صاحبنا حاملاً إحدى قرنبيطاتي الثمينة، وقد أخذته العزة في التملك فراح يمشي بهيبة ووقار.

ولم يمنعني هذا المشهد الفكاهي، الذي ظهرتُ فيه بمظهر الضحية، من مطاردة السارق الذي تعقبته بسرعة حانقة. وما أن بلغت منتصف الطريق حتى ناداني سري يوكتسوار وطلب مني العودة، وقد كان يهتز بالضحك من قمة الرأس حتى أخمص القدم، وقال مفسرا بين نوبات السرور:

"ذلك المسكين كان على باله قرنبيطة. فرأيت أن لا بأس من حصوله على إحدى قرنبيطاتك التي لم تقم بصيانتها كما يجب!"

هرعت إلى حجرتي فتبين لي أن ذلك الحرامي هو من عشاق الخضار لأنه لم يمس خواتمي الذهبية ولا ساعتي ولا نقودي التي كانت جميعها مبعثرة فوق الغطاء. لكنه زحف تحت السرير حيث سلة القرنبيط المحجوبة عن الأنظار وقد حققت أمنية قلبه.

طلبت من سري يوكتسوار ذلك المساء كي يوضح لي تلك الحادثة التي لم تخلُ من بعض ميزات محيّرة، فهز المعلم رأسه ببطء قائلا:

"سوف تفهم ذلك يوما ما. فالعلم سيكتشف قريبا عددا من القوانين المجهولة."

بعد ذلك ببضع سنين، وعندما أطلت فجأة عجائب الراديو على عالم منذهل تذكرت نبوءة المعلم. ومضت إلى غير رجعة الأفكار القديمة عن الفضاء والزمن، إذ لا يوجد الآن بيت واحد مهما كان ضيقاً لا تدخله الإذاعات (والفضائيات) العالمية على كثرتها. وقد تفتح أكثر العقول غباوة واتسع أمام الدليل القاطع لأحد مظاهر الإنسان: الوجود الكلي.

وحكاية القرنبيط الكوميدية يمكن فهمها مقارنة بجهاز الراديو. فمعلمي كان جهاز إرسال واستقبال متكاملاً. والأفكار ليست سوى اهتزازات أثيرية بالغة الرقة. وكما يلتقط الراديو الحساس برنامجاً معينا من بين آلاف البرامج المنبثة في كل مكان، هكذا كان سري يوكتسوار متقبلا لإحدى الأفكار(فكرة العبيط المهووس بالقرنبيط) من بين الأفكار البشرية التي لا يمكن حصرها، المبثوثة في هذا العالم. فلدى سيرنا نحو الشاطئ شعر المعلم برغبة القروي البسيط وعمل للفور على تحقيقها له. فالعين المقدسة لمعلمي اكتشفت الرجل راقصاً قبل أن يراه التلاميذ. وإغفالي لإقفال باب المنسك أعطى المعلم ذريعة ملائمة لحرماني من إحدى نباتاتي العزيزة. وهكذا بعد أن عمل سري يوكتسوار كوسيلة استقبال عمل أيضا كجهاز إرسال. وفي هذا الدور تمكن المعلم من توجيه القروي كي يعكس خطواته ويتوجه إلى غرفة معينة للحصول على قرنبيطة واحدة.

البصيرة هي دليل الروح وتظهر فعلا في الإنسان في تلك اللحظات التي يكون فيها الفكر هادئا. وكل إنسان تقريباً قد شعر بحدس باطني لا يمكن تفسيره، أو تمكن من نقل أفكاره بكيفية فعّالة إلى شخص آخر.

العقل البشري المتحرر من (تشويش) القلق النفسي له القدرة على إنجاز كل الوظائف المعقدة لجهاز الراديو: إرسال الأفكار واستقبالها، والتخلص من الأفكار غير المرغوبة. وكما أن قوة بث المحطة الإذاعية تتوقف على كمية التيار الكهربائي التي تستخدمها، هكذا تعتمد فعالية عقل الراديو البشري على قوة الإرادة التي يملكها كل فرد.

إن جميع الأفكار تبقى سابحة للأبد في أرجاء الكون. وبواسطة التركيز العميق يستطيع المعلم المستنير أن يلتقط ويقرأ فكر أي إنسان حياً كان أو ميتاً. فالأفكار هي ذات أصل كوني لا فردي. والحقائق لا يمكن خلقها بل اكتشافها. وأما الأفكار الخاطئة – صغيرة أو كبيرة – فهي ناجمة عن عدم القدرة الكافية على التمييز. وغاية علم اليوغا هي تهدئة العقل حتى يتمكن من سماع الإرشاد غير المغلوط للصوت الباطني، دون تشويش أو تشويه.

وقد أتى الراديو والتلفزيون بأصوات وصور الآخرين البعيدين، في نفس الوقت، إلى بيوت ملايين البشر. وهذا أول المؤشرات العلمية على أن الإنسان روح كلي. ومع أن الذاتية العمياء تحاول بشتى الوسائل الاستعلاء والاستيلاء على جوهر الإنسان، لكنه ليس جسما محصورا في نقطة معينة من الفضاء، بل هو روح كلي الوجود.

وفي هذا الصدد كتب تشارلس روبرت ريخيت الحائز على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء ما يلي:

"إنه لأمرٌ غريب وعجيب جدا أن ظواهر طبيعية بعيدة الاحتمال ما زالت تظهر. وحينما تصبح راسخة لن تدهشنا أكثر مما أدهشنا ويدهشنا العلم الآن بالذي أتى لنا به في القرن الماضي. الظواهر التي نتقبلها الآن ببساطة يُعتقد أنها لا تثير دهشتنا لأنها أصبحت مفهومة بالنسبة لنا. ولكن هذا ليس واقع الحال. إن كانت لا تدهشنا فهذا لا يعني لأننا نفهمها بل لأنها أصبحت مألوفة لنا. وإن كان ينبغي لنا أن ندهش لكل ما هو غير مفهوم فيجب أن نندهش من أي شيء: من سقوط الحجر المقذوف في الهواء، وحبة البلوط التي تصبح شجرة سنديان كبيرة، والزئبق الذي يتمدد بالتسخين والحديد الذي يجذبه المغناطيس.

"ولم يعد العلم اليوم معقدا. . . فالحقائق المدهشة وغير المتوقعة التي سيقوم أحفادنا باستنباطها هي الآن قريبة منا وتحدّق بنا إن جاز التعبير، بالرغم من عدم رؤيتنا لها. ولكن لا يكفي القول بأننا لا نراها: فنحن لا نريد رؤيتها، لأنه ما أن تظهر حقيقة غير متوقعة وغير مألوفة نحاول وضعها في الإطار العام للمعرفة المقبولة، ونسخط إذا تجرأ أي إنسان على التجريب بعد ذلك!"

المصدر: مذكرات يوغي: السيرة الذاتية

Autobiography of a Yogi

By Paramahansa Yogananda

رأيتك مختبئاً

حدّقتُ في زهرة وابتهلت، وعلى الفور أبصرتك أيها الروح الإلهي مختبئا بها. لقد كانت تنفح عبير حضورك، وقد تخضّبت أوراقها ببراءتك الوردية وشعّ قلبها بذهب حكمتك.

وأبصرت قدرتك الكلية تسند ساقها النحيل وورقها الأخضر النضير. أما خفايا الحياة والخلود فرأيتها هاجعة في غبار الطلع وقد ألهمت لمستك اللامتناهية النحلة وألهبت صدرها فراحت ترتشف عذوبتك.

انعم عليّ بمعرفة عجائب خليقتك وأطلعني على أسرارك التي لا انتهاء لها، والكامنة حتى في أدق الأعشاب النابتة على جانب الطريق.

همسات من الأزل