طلاقة وتمثيل بصري

كنت قد تطرقت إلى ظاهرتي الجَزْء بإسقاط بعض آخر البحر وينسب ما بقي للبحر.

تقابلها ظاهرة الاجتثاث أو الاقتضاب وهي إسقاط بعض أول البحر من أول البحر ولا ينسب ما بقي إلى البحر بل يستقل بتسمية خاصة فلا يقال مجتث الخفيف ولا مقتضب المنسرح.

مجزوء البسيط = 2 2 3 2 3 2 2 3 1 3

مجتث الخفيف = 2 3 2 2 2 3 2 3 2

مقتضب المنسرح = 2 2 3 2 3 3 1 3

ولكن التسمية شيء وأواصر القربى الحقيقة في الحالتين شيء آخر، باعتبار مقياس القربى هو الإدراك السمعي للتشابه.

لنأخذ المثالين التاليين :

من البسيط ومجزوئه ( ومجتثه - المديد )

يا من رأى عمراً تكسوه بردته والزيت أدْمٌ له والكوخ مأواه

يهتز كسرى على كرسية فرَقا من بأسه وملوك الروم تخشاه

**

جَزء 2 2 3 2 3 2 2 3 1 3

يا من رأى عمراً مستلقيا والزيت أدمٌ له في بيته

يهتز كسرى على كرسيّة وبأسه نابعٌ من سمتِهِ

**

إجتثاث ( المديد = مجتث البسيط) 2 2 3 2 3 2 2 3 1 3

عمرٌ تكسوه بردته هانئا والكوخ مأواهُ

بل على كرسيّها فرَقاً عصبة الرومان تخشاه

من الخفيف ومجزوءه ومجتثه

أفحتمٌ عليّ إرسال دمعي كلّما لاح بارقٌ في مُحيّا

يا حبيبي لأجل عينيك ما ألـ ـقى وما أوّل الوشاه عليّا

**

جزء ( مجزوء الخفيف ) = 2 3 2 3 3 2 3 2

أفحتمٌ تعانُقُ كلما لاح بارقُ

يا حبيبي تحيةً تحتويها المشارقُ

**

إجتثاث ( مجتث الخفيف ) = 2 3 2 3 3 2 3 2

عليّ إرسالُ دمعي لبارق في محيا

لأجل عينيك أحيا رغم الوشاة عليّا

أجد قربى أكثر في السمع بين البسيط ومجتثه ( المديد ) والخفيف ومجتثة من تلك التي بين البسيط ومجزوءه والخفيف ومجزوءه ، ولا عجب في ذلك فالقافية تاج الإيقاع الشعري ( على رأي د. أحمد كشك) في نهايات الأبيات توحد أكثر من بدايات الأبيات.

ذكرني بهذا ما قصيدة لأستاذنا د. محمد جمال صقر

http://www.lisanarabi.com/vb/showthread.php?t=1795

يقول في أولها

مَقْتَلِيْ = 2 3

هَلِّلِ = 2 3

وَسَبِّحِ اللَّهَ فَكَمْ مِنْ وَلِيْ = 3 3 2 1 3 2 3

لَمْ يَلِ = 2 3

إِلَّاْ خَبَاْلَ الْقَزَمِ الْأَرْذَلِ = 2 2 3 2 1 3 2 3

وهذا استخدام لطيف ظريف للسريع.

وحدثتني نفسي أن أتدرج به على النحو التالي:

2 3 = مقتلي

3 2 3 = أنى مقتلي

2 3 2 3 = كبّري هلّلِي

2 2 3 2 3 = واستذكري ما يلي

3 2 2 3 2 3 = وإن جاؤوكِ لا تغفلي

2 3 2 2 3 2 3 = ولْتعي ما كان من أوّلِ

2 2 3 2 1 3 2 3 = واستغري الله فكم من وليِ

2 3 = لم يلي

2 2 3 2 2 3 2 3 = إلا خبال الآثم الأول

ذكرني هذا بالعلاقة بين السمع والبصر قلت فلأمثل هذا بصريا

رقم السلسلة هو رقم تسلسل الشطر

الشطر الأول = مقلتي = مقْ لتي = 2 3

عاد بي هذا إلى موضوع ( هذا الـ )

https://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/20-hatha-al-1

فقلت فلأمثل بعض ذاك بيانيا أيضا :

ألا تبدو العلاقة بين هذه الأوزان على جانب من التجانس كذلك الذي بين بعض بحور دائرة ( د - المشتبه ) ، الخفيف ومجتثه ، والمنسرح ومقتضبه مثلا :

لله وكتابه المثل الأعلى

أسمى وأغلى ما يطمح له مسلم يشتغل في علم أي علم أن يُنْتـَفع به ليكون له منه أجر بعد موته.

يقول د. إبراهيم أنيس من فصل بعنوان ( النسيج القرآني وأوزان الشعر) في كتابه ( موسيقى الشعر – ص 328) :"أما من ناحية الموسيقى وتردد القوافي، فلا ضير ولا غضاضة من أن نصف القرآن بها ،فقد نزل القرآن بلسان عربي مبين، لسان موسيقي تستمتع الأسماع بلفظ كلماته وتخضع مقاطعه في تواليها لنظام خاص يراعيه الناظم مراعاة دقيقة ،ويعمد إليه عمدا ولا يحيد عنه في شعره، وتتردد في كلماته مقاطع بعينها فتستريح إلى ترددها الآذان، وتلك هي التي تسمى بالقوافي، وكل هذا يكسب الكلام جمالا وكمالا. فالنثر حين يرسل إرسالا ولا ينظر إلى حسن موسيقاه ، يبعد في توالي مقاطعه ونظامها عن ذلك الذي نعهده في الشعر ونتقيد به في النظم. فإذا عني المرؤ بموسيقاه مالت مقاطعه في تواليها إلى الشعر وكثرت فيه المقاطع التي تتردد بعينها والتي قد تسمى قوافي. فليس يعيب القرآن أن نحكم على أن في ألفاظه موسيقى كموسيقى الشعر، وقوافي كقوافي الشعر أو السجع، بل تلك ناحية من نواحي الجمال فيه"

تعليق : فيما يخص القرآن الكريم نستعمل كلمة الفاصلة ولا نستعمل القافية أنظر :

البرهان في علوم القرآن - الزركشي

الكتاب : البرهان في علوم القرآن

المؤلف : محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي أبو عبد الله المتوفى سنة 794 هـ

http://islamport.com/d/1/qur/1/25/229.html?zoom_highlightsub=%C7%E1%DE%C7%DD%ED%C9

وخصت فواصل الشعر باسم القوافى لأن الشاعر يقفوها أى يتبعها فى شعره لا يخرج عنها وهى فى الحقيقة فاصلة لأنها تفصل آخر الكلام فالقافية أخص فى الاصطلاح إذ كل قافية فاصلة ولا عكس يمتنع استعمال القافية فى كلام الله تعالى لأن الشرع لما سلب عنه اسم الشعر وجب

سلب القافية أيضا عنه لأنها منه وخاصة به فى الاصطلاح وكما يمتنع استعمال القافية فى القرآن لا تطلق الفاصلة فى الشعر لأنها صفة لكتاب الله فلا تتعداه

ينقل أحمد كشك ( الزحاف والعلة – ص 158) عن د. أنيس قوله وأنقله بتصرف يسير :" العنصر الثالث من عناصر الموسيقى في الشعر العربي ونظام توالي المقاطع المسمى العروض وطبيعة الأصوات التي يتألف منها الشطر ثم الإيقاع الشعري………فالنظام الخاص لتوالي المقاطع الذي تحدث عنه أهل العروض قد نجده في كثير من نصوص النثر. ولم يصادف العروضيون أي مشقة للعثور عليه في بعض آيات القرآن الكريم ..ومع هذا فنحن حين نرتل هذه الآيات الترتيل المعروف لا نكاد نشعر في ترتيلنا ذلك الإيقاع الذي لا نلحظه إلا في إنشاد الشعر، أي في ترتيلنا المألوف للآيات يفتقد ذلك العنصر الأساسي الذي نسميه الإيقاع"

ثم يعلق د. كشك على ذلك بالقول: "ونحن نخالف الدكتور أنيس رائد علم اللغة حين يجعل إيقاعه مميزاً للشعر عن النثر بناء على المقارنة التي تمثل فيها آيات القرآن نماذج للنثر، فتلك مقارنة غير صائبة لأن للقرآن إيقاعه الذي يختلف عما للنثر من إيقاع .فواجب إذن أن نبحث عن إيقاع القرآن ؛لنقارن بينه وبين إيقاع الشعر .لا أن نكتفي بمعرفة الوقع الشعري ونقول أن لغة الشعر تختلف عن لغة النثر .ولو وضعنا القرآن بعيداً عن هذا الدرس لأمكن أن نتبين أن ذلك الإيقاع

الشعري لو طُبق على نثر لتحول إلى شعر .وحين يرى أنيس فيما أورده من آيات أنها لا تحوي إيقاعاً شعرياً ينسى أن السبب راجع لكونها تحمل إيقاعاً خاصاً بها فكيف نحمل الإيقاع إيقاعاً !"

أقول هذا مقدما لمحاولة أتمنى أن تساعد على التصوير البصري للوقع السمعي لآيات من كتاب الله الكريم آملا أن تسهم في استجلاء بعض أسرار الجمال القرآني التي ربما قادت إلى الكشف عن أوجه الإعجاز فيه وربما أفادت كذلك في البحث عن بعض أسرار الإيقاع القرآني التي تميزه عن إيقاع كلام البشر شعرا كان ذلك أم نثرا.

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

الشكل التالي

يمثل مقاطع الآيات بالرقمين 2 و 3 الكريمة بشكل روعي فيه ترتيب المقاطع على جدول الإكسل بحيث تترافق نهايات الآيات في نفس العمود.

الشكل التالي

يمثل مقاطع الآيات الخمسة الأول بالرقمين 1 و2 وروعي فيه ما روعي في الشكل السابق.

وفيما يلي تمثيل لذات الآيات الكريمة المتقدمة بدلالة الرقمين 2 و3

قد لا يعني هذا الكثير ولكن ربما اتسع وامتد ووجد له ذوو البصيرة تطبيقات أعمق وأجدى .

http://www.aqsaa.com/vb/showthread.php?t=93115

الوحدة الفنية

في سورة العاديات

د. كريم الوائلي

هذا على صعيد المشهد الحسي ، أما على صعيد الإيقاع فأمر آخر لا يقل أهمية بل يتمم المشهد ويزيد من روعته ، والمقطع في السورة الكريمة يتميز بفقراته القصيرات المكونة من كلمتين ، وهي تمتاز بشدة الإيقاع وتوازنه ، حتى إننا نجد الموازنة تكاد تكون تامة بين الألفاظ : العاديات ، والموريات ، والمغيرات ، وضبحاً ، ونقعاً ، وجمعاً.

كما أنَّ الآية الكريمة مساوية للأخرى في الوزن :

والعاديا / ت ضبحا

مستفعلن فعولن

فالموريا / ت قدحا

مستفعلن فعولن

وهذا الوزن« مستفعلن فعولن » هو مجزوء الرجز ، والرجز اشتداد في الموسيقى وسرعة في ضرباتها وحركتها الصاخبة الوثابة ، ويكثر استعمال الرجز في مثل هذه المواقف لملاءمته لها وانسجامه معها ، وهذا يتلاءم مع طبيعة المشهد ليتم الانسجام. كما أنَّ الآية الكريمة قد استغنت بلفظة « به » في« فأثرن به نقعاً فوسطن به جمعاً » استغنت بهذه اللفظة عن أخرى غيرها أو أخريات فيما لو حاولنا حذفها ، كما أنَّ المأتي به لا يحقق النغم الموسيقي الملائم للمشهد الحسي والصورة المتحركة ، ولو حذفنا لفظة« به » ما استطعنا لاختلاف الوزن والإيقاع الموسيقي في الآية ولأصبحت هكذا« فأثرن نقعاً فوسطن جمعاً » وقد لاحظت الصوت النشاز الذي صدم مشاعرك بمجرد حذف هذه اللفظة ، والأمر كذلك إنْ حاولنا وضع أخرى محلها أو أخريات ، وكأنَّ هذه اللفظة لا يصلح غيرها محلها.

إنَّ ما تختم به الآيات الكريمات في هذا المقطع أي الفاصلة ، وهي اللفظة الثانية في الآيات الثلاث الأولى ، والثالثة في الآيتين الأخيرتين.. هو الحاء والتنوين ، ضبحاً وقدحاً ، وصبحاً ، والعين والتنوين ، نقعاً ، وجمعاً ، وهذه الألفاظ تهب الآيات إيقاعا فنياً متفرداً ورنيناً موسيقياً ، وروعته بما فيه من حركة الخيول ، وضباح الأصوات وقدح الأرض.. إنه صوت صاخب متزن ومتساوق مع الإيقاع الكلي للسورة بشكل منتظم بتوالي الحركات والسكنات. وتساوق الإيقاع هذا ينفذ تأثيره إلى الأعماق عبر السمع في صور متعددة يرافقه انفعال نفسي وآثار جسمية خاصة ، وقد اثبت علماء النفس الموسيقي

ما للإيقاع الموسيقى من أثر في الإنسان وعقله الباطن ومن ثم في سلوكه.

وحين نقرأ« والعادياتِ ضبحاً » يظهر الإيقاع الترنمي ، ويختفي الإيقاع الترنمي الآخر من الآية الكريمة التالية« فالمورياتِ قدحاً » وكأنَّ ضربات الإيقاع موجات ماء القي فيه حجر ، ما انْ تنتهي هذه الموجه حتى تأتي الأخرى بتعاقب وانسجام دقيقين..أو كعامل مطرقة هوى على سندانه بتوازن زمني محدد فتحدث مطرقته رنيناً يمتزج مع الأول الذي ما زال مستمراً ، ومما يدل على تمازج الأصوات في المعركة مجيء التنوين المتبوع بالفاء لتحصل عملية الإخفاء المعروفة في اللغة :

والعاديات ضبحن ن ن ن فالمور...

فالموريات قدحن ن ن ن فالمغيـ...

فالمغيرات صبحن ن ن ن فأثر....

وكذا الأمر مع الآيتين الأخريين

فأثرن به نقعن ن ن ن فوسطن....

فوسطن به جمعا...

واستمرار الإيقاع النغمي يتلاءم كل التلاؤم مع طبيعة المشهد الحسي بحركته الوثابة المجسمة التي صورها لنا المقطع في سرعة وتكرار للمشاهد.

والملاحظة العامة في هذا المقطع في السورة الكريمة خشونة وفرقعة وطبل متناسق متزن ، وكأنك تقفز وتركض مع طبل موسيقاها الرتيب العالي ، وعلى الرغم من هذا فليس في هذا النغم أي خلل أو قطع يخدش السمع فضلاً عن أنه منسجم مع طبيعة العرض

الذي يتطلبه مقطع السورة من حث للخيول الراكضة الضابحة وقدحها للأرض بحوافرها وتعالي الغبار الكثيف الذي يلف الجو.