tada'e

التداعي والاستدعاء

هذا موضوع حساس جميل من مواضيع الشعر والعروض، ومفردتاه التداعي والاستدعاء، وقبل الدلوف إلى ساحة الشعر والأدب يقتضي الأمر شرح المفردتين وظلالهما.

إذا هطل المطر فإن من تداعيات هطولِه مسيلـُه وبالتالي تكون سيل. فمن أراد أن ينتهي بالسيل إلى بئر أو مزرعه فإن ذلك يستدعي أن يقوم بالحفر لتقرير مسيل السيل. وهنا نرى أن الأصل هو التداعي ثم يأتي الاستدعاء على شكل فعل يقصد منه صوغ التداعيات ضمن سنن العلم للوصول بالماء إلى غاية مقصودة.

إذا قصدت الحج فإن القصد يستدعي تجهيزات عدة، ومنها على سبيل المثال تحضير المصاريف وشراء ملابس الإحرام وفحص السيارة ثم قيادة السيارة إلى مكة المكرمة، وما إلى ذلك. أثناء قيادتك للسيارة لو انفجرت عجلة فإن لها تداعياتها من جنوح السيارة وتنبهك إلى ضرورة ضبط مسارها وتوقيفها، فتنبهك يعتبر من التداعيات ومحاولتك ضبط مسيرها وتوقيفها استدعاء لأعمال تقوم بها كرد فعل على التداعيات.

يبدأ السيل بالتداعي، ويبدأ الحج بالاستدعاء.

والأمور عادة عبارة عن مزيج من التداعي والاستدعاء بأهميتين متفاوتتين حسب كل حالة، وهذا الموضوع وإن يكن خاصا بالعروض والشعر فإن له تداعياته في شتى المجالات العلمية والأدبية والسياسية وسواها. وهذه الأهمية هي الجديرة بما يولده الانغماس في تفكير الخليل من تداعيات. ويطول الأمر لو رحنا نتقصى ذلك في شتى المجالات، لا سيما وأنه مفعم بمتعة البحث والتقعيد وما يثيره من حراك فكري.

حسبك مثالا على هذا قوله تعالى :" ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " فالتقوى استدعاء ويأتي المخرج والرزق من لدن الله سبحانه تداعيين لذلك الاستدعاء.

فالأمر المقصود استدعاء وما يترتب على أمر ما كنتيجة تحكمها السنن والثوابت تداعٍ

قد يقول قائل إن هذا من باب الفعل ورد الفعل أو من باب التحدي والاستجابة، ومن أمعن النظر وجد هذين ينضويان في إطاره وهو يشملهما ويزيد عنهما.

والآن ننتقل إلى الشعر والعروض.

لا شك أن الشعر مزيج من الاستدعاء والتداعي معا، ولكن الأصل فيه الاستدعاء من حيث قصد الشاعر قول الشعر في موضوع محدد. ولكن في إطار هذا التوجه العام أبحث في آلية النظم بدلالة كل من التداعي والاستدعاء، والمفترض في ذلك الإطار أن يزيد التداعي بالنسبة للموهبين على سواهم.

ومن المواقف الطريفة في غلبة أحدهما على الآخر ما يروى من أن أحدهم وقف يرثي خليفة فاستهل بالصدر:

مات الخليفة أيها الثقلان ، وهذا استدعاء موفق لصيغة تناسب نبأ النعي، فانتبه الناس، فأكمل بالعجز " فكأنني أفطرت في رمضان" فضحك الناس. ولا يخفى أن هذا تداعٍ لا استدعاء، تداعٍ تم تحت تأثير إغراء التصريع وزنا وقافية مميزة، فكان هذا التفاوت بين مقتضيات الاستدعاء وواقع التداعي مثارا للمفارقة.

والتخلص في الشعر – واشتهر به المتنبي – يسود فيه قصد الاستدعاء كقوله متخلصا من الغزل إلى المدح :

مَرّتْ بنا بَينَ تِرْبَيْها فقُلتُ لَها من أينَ جانَسَ هذا الشّادِنُ العَرَبَا

فاستَضْحَكَتْ ثمّ قالتْ كالمُغيثِ يُرَى ليثَ الشَّرَى وهوَ من عِجْلٍ إذا انتسبَا

فحبكة البيتين استدعاء خالص.

كل ما تقدم في الأمور العامة وبعدها السياق الشعري مقدمة ضرورية لدراسة هذا الموضوع في الصياغة الشعرية. من تشربت نفسه خصائص العربية يجد انسيابا للكلام فيها عامة وفي شعرها خاصة. ولنركز على

الشعر كبداية، باستعراض عملي، وككل عينه تتم دراستها بعيدا عن محيطها لا تؤخذ كافة العوامل بعين الاعتبار، ولكن لا بد من ذلك لبداية الشرح ثم محاولة دمج دراسة العينة منفصلة مع محيطها.

نية الشعر بوجه عام كنية الحج يغلب عليها استدعاء إتقان علوم اللغة المختلفة، ولكن آلية تفاصيل النظم موزعة بين التداعي والاستدعاء، وإذا كان التداعي يغلب في أول البيت فإن الاستدعاء يغلب في نهايته من حيث قصد قافية معينة وروي معين وما يستلزمه ذلك من مراعاة للنحو تقدم صياغة معينة على سواها. والعلاقة بين التداعي والاستدعاء متشابكة متموجة أثناء النظم. لنفترض ان شاعرا بدأ بيتا من الشعر بكلمة :

أ - ( يومًا = 2 2 )

ب- إن الحس اللغوي ينبئ بأن من تداعيات المقطعين 22 مجيء متحرك بعدهما 1 وهذا بعد 22 يغلب جدا أن يكون بداية 21 = 3 = وتد وهذا تداع يعطينا 4 3

جـ - وبعد الرقم 3 يأتي الرقم 1 أو 2 لنبدأ الآن بشطر بيت من الشعر اخترنا الرقم 1 يَوْمًا أكون = 4 3 1 كان يمكن أن يأخذ النظمُ المسارَ 4 3 2 ، يومُ أتينا = 4 3 2

د- سنتابع هنا مع المسار 4 3 1 حيث بعد هذا يأتي الرقم 3 كتداع أيضا ننتهي منه إلى 4 3 1 3

هـ - وإذن يكون لدينا مساران بعد هذا في الوجدان، الرقم 3 يمكن ان يتبعه في الحس الرقم 2 أو الرقم 3 وهنا اشتراك بين التداعي والاستدعاء. ويصبح لدينا مساران الأول 4 3 1 3 2 والثاني 4 3 1 3 3 حيث

4 3 1 = يوما أكونُ ، وما تقدم تراه مبينا بالأسهم على الجدول التالي:

الجدول أعلاه يمثل مسارات المقاطع التي يمر بها تيار النظم ، ما كان منها في خانتين متجاورتين متساويتي الارتفاع ( ميزتهما باللون الأصفر ) فإن المسار بينهما يغلب عليه التداعي لوجوب أن يتبع الثاني الأول، وما تجاورا مع اختلاف في الارتفاع سواء كانا أزرقين أو أحدهما أزرق والثاني أصفر يشترك التداعي والاستدعاء معا بشكل متقارب في تقرير الثاني بعد الأول لوجود عدة خيارات .

وصلنا إلى المسارين الأول 4 3 1 3 2 والثاني 4 3 1 3 3 وآخر نص لدينا ( يوما أكونُ = 4 3 1 )

يبدأ الشطر بابنص : يوما أكون مع الملاح، فكيف ستكون حركة الملاح ؟ هل ثمة شدة على لام ملاح أم لا ؟

[ يومًا أكون مع المَلْـ]ـــــلا حِ = [ 4 3 1 3 2] 2 1 وهذا يقود إلى البسيط في المسار الأول

ونكمل الشطر بالقول : يوما أكون مع الملّاح ممتطيا = 4 3 1 3 4 3 1 3

[ يومًا أأكون مع المِلا ] حِ = [ 4 3 1 3 3 ] 1 وهذا يقود إلى الكامل في المسار الثاني

ونكمل الشطر بالقل : يومًا أكون مع المِلاحِ مسافرًا = 4 3 1 3 3 1 3 3

ونكمل البيتين ليكون:

بيت البسيط : يوما أكون مع الملّاح ممتطيا ذات الدّسار وحُلْمَ الوصل مقتفيا

بيت البسيط : يوما أكون مع الملّاح ممتطيا ذات الدّسار على قاموس تيار

بيت الكامل : يومًا أكون مع المِلاحِ مسافرًا من بعد كتماني أصيرُ مُجاهرا

الييت الأصيل هو البيت الثاني وهو للشاعر الورغي من قصيدة مطلعها :

الهدف من هذا الموضوع هو بعث الحياة في القواعد الجامدة وجعل القارئ يربط ما بين الأرقام والأنغام والوزن والإحساس.