ناصر وتداعيات

ناصر وتداعيات

تربطني ببعض الشعراء الشباب الذين عرفتهم شخصيا في الرياض علاقة من الود تجعل شهادتي فيهم مجروحة وأذكر منهم الشعراء محمد السقاف وبندر المحيا وناصر الفراعنة.

ولكن آنيّة هذا الموضوع مرتبطة بالشاعر ناصر الفراعنة وما عشته مؤخرا من أجواء قصائده وخاصة في ( شاعر المليون ) من استماع ومتابعة بعض التعليقات. إن قدرة ناصر في شعره النبطي إضافة إلى

ما أسلفت من معرفة وود بيني وبينه خففا من حساسيتي تجاه الاهتمام الزائد بالشعر النبطي على حساب الشعر الفصيح.

كلما استمعت لناصر الفراعنة وجدتني أنتقل بوجداني عبر الزمن لأطل على مدى زمني ممتد من العصر الجاهلي حتى اليوم، مع تركيز أكثر على العصر الجاهلي عندما يتناول معاني متصلة بالبيئة البدوية كما أن انثيال شعره ومفرداته وصوره وإلقاءه جميعا تجعلني أتخيل شاعرا من تلك العصور الزاهية للغة العربية، حتى ليشطح بي الخيال إلى تصور فيلم سينمائي يقوم فيه بدور أحد كبار شعراء تلك العصور، بل إني لأتمنى أن يلتقط بعضهم هذه الفكرة فيبادر إلى تنفيذها.

كانت هذه مقدمة لموضوع أرى أنه سيطول فرأيت كما جرت عادتي عندما يلح موضوع ما على ذهني أن أنشرها وأوالي التحديث تعديلا وإضافة بقدر ما يسمح الوقت، لأن من شأن ذلك أن يستحثني للمضي بالموضوع خلافا لما يمكن أن يسفر عنه التسويف من احتمال الالتهاء عنه.

واخترت كلمة تداعيات في العنوان ( ناصر وتداعيات ) عوضا عن ( ناصر وتداعياته ) لما يخطر ببالي من عدة مواضيع بعضها من تداعياته المباشرة وبعضها من تداعيات تلك التداعيات وهكذا.

من المأثور المشهور عن الجاحظ قوله " إن المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ"

ويقول عبد القاهر الجرجاني:" واعلم ان الداء الدوي والذي أعيا أمره في هذا الباب، غلط من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ.. فأنت تراه لا يقدم شعراً حتى يكون قد أودع حكمة وأدباً، واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر” (دلائل الإعجاز256)

ويقول حول قول الجاحظ ( إن المعاني مطروحة في الطريق) :" إن الجاحظ يقارن بين الكلم ومادة الصائغ. فهو يصنع من الذهب خاتما والحكم على صنعته ليس من جهة الذهب، وانما من جهة الخاتم. فالمعنى هو المادة الأولية، والإعجاز هو في الكلام."

ومما لا شك فيه أن المعنى والكلام كليهما مهم. وفي معرض الشعر هناك بعض المعاني (المؤممة ) أي التي شاعت في الأمة حتى غدت ملكا عاما ليس لأحد من المتأخرين خاصة أن يزعم أنه أولى به من سواه، وإن كان الحديث عن السرقة جائزا فيه فإنه ينصرف إلى استعمالاته الأولى لدى المتقدمين قبل أن يشيع فيصبح تراثا عاما. ولكن يبقى الاختلاف والتفاضل فيه بين الشعراء في طريقة التعبير عنه بالكلام وما يتضمنه الكلام من تعابير وصور وظلال. والاختلاف في هذا بين الشعراء راجع لثقافة وبيئة وزمان كل شاعر. أما التفاضل فيكون في إبداعية الشاعر الخاصة التي وإن انطلقت في زمان ما إلا أنها تمتد إلى سواه.

مدعاة ما تقدم هو قول شاعرنا :

بين خصر إشتراكي وردف رأسمالي

في قصيدته ( دثريني يا منيرة )

نحول الخصر ونقيض ذلك في سواه أمر كرره الشعراء العرب على مر العصور، وحتى عندما تغير الذوق العام ظل الشعراء العرب يطرقون ذلك المعنى.

وثمة أمثلة كثيرة جدا على ذلك، ومع وحدة المعنى فقد تفاوت جمال التعبير وما صاحبه أحيانا من صور أو من تشبيه.

بعض الأمثلة كان مباشرا كقول أبي تمام :

نَبيلُ رِدفٍ دَقيقُ خَصرٍ سَليلُ شَمسٍ نَتيجُ بَدرِ

بَديعُ حُسنٍ رَشيقُ قَدٍّ مَليحُ خَدٍّ نَقِيُّ ثَغرِ

وصالح حجي الصغير

قويم قدّ أسيل خد أثيث شعر به تستّرْ

ثقيل ردف سقيم خصر مكي لحظ له مفتّر

وعبد الهادي السودي:

لطيفُ خصرٍ ثقيل ردفٍ يزورنا كلما اشتهينا

وبعضهم زاوج بين الوصف المباشر والتشبيهات المادية كما في قول ابن حجاج:

ومدخلةٍ لها ردفُ سمينٌ وخصرٌ كالهلال من الهزال

وبعضهم تفنّن في التعبير مستعملا تشابيه معنوية كعلي الحصري القيرواني:

حَلفتُ لربّاتِ الخُدورِ بما جَنَى فَمُ الصبِّ من وَرْدِ الخُدودِ المُقَبَّلِ

وما صامَ من خَصْرٍ لهنّ مُخَفَّفٍ وأفَطرَ من رِدْفٍ لهنّ مُثقّلِ

وظافر الحداد:

وخَصْرٍ كصبري فوق رِدْفٍ كصَدِّه فذا ظالعٌ واهٍ وذاك ضَليع

وتنقل الشعراء بين هذه الأصناف من التعابير وربما سواها كما يظهر في الأمثلة التالية :

نجيب الحداد :

رقيقة مضموم الوشاح فخصرها ضعيف واما ردفها فثقيل

مصطفى صاد الرافعي:

رقيقة مضموم الوشاح فخصرها ضعيف واما ردفها فثقيل

كمال الدين بن النبيه:

وَتَخْتَرِقُ الصُّفوفَ برَوْقِ فِيها وَهَلْ يَخْفى شَذى الْمِسْكِ الذَّكِيَّ

وِشاحاها عَلى خَصْرٍ عَديمٍ وَمِئْزَرُها عَلى رِدْفٍ مَلِيِّ

أبو الفصل الوليد:

ويَلي من الخَصرِ الذي هو مُضعفٌ في الزهرِ لكن في الهوى هو مُضعفي

ومن العجائبِ إلفةُ الضدَّينِ مِن خصرٍ نحيلٍ فوقَ ردفٍ مُسرف

أمين الجندي:

وَبِثقل ردف كَالكَثيب أَقَله خصر كَخوط البانة المُتأود

إبراهيم الطباطبائي:

ويجذب خصرها ردف ثقيل كدعص الرمل يرتجُّ ارتجاجا

ابن الرومي:

من كلّ ناعمةِ الشبا ب كأنها الخُوطُ الهصيرُ

مهتزةُ الأعلى يجا ذبُ خصرَها ردفٌ وثيرُ

يزيد بن الطثرية:

عُقَيلِيَّةٌ أَمّا مُلاثُ إِزارِها فَدَعصٌ وَأَمّا خَصرُها فَبَتيلُ

يحيى بن طالب الحنفي:

هِجانٌ فأمَّا الدِّعصُ من أُخرَياتها فوعثٌ وأمَّا خصرُها فَدقيقُ

محمد سعيد الحبوبي:

شربت بوجنتها دمي واستخدمت لخضاب أنملها دم الراووق

ترتج من أردافها في جدول متعلق من خصرها بدقيق

كمال الدين بن النبيه:

وِشاحُها مِنْ خَصْرِها فارِغٌ وَرِدْفُها الوافِرُ مِلْءُ الإِزارْ

مجنون ليلى:

هِجانٌ فَأَمّا الضَعصُ مِن أُخرَياتِها فَوَعثٌ وَأَمّا خَصرُها فَدَقيقُ

حسين القزويني:

ما انثنت إلا تشكى خصرها للردف ثقلا

سبط بن التعاويذي:

وَكُلِّ هَيفاءَ ذاتِ دَلٍّ يَقتُلُني قَدُّها الرَشيقُ

يَشكو إِلى رِدفِها المُعَبّا مِن جَورِهِ خَصرُها الدَقيقُ

فتيان الشاغوري:

تَظَلَّمَ مِن رِدفِها خَصرُها لَقَد حافَ ظُلماً عَلَيهِ وَجارا

حازم القرطاجني:

ما العيشُ إلاّ ما نعِمتَ بها وما عاطاك فيه الكأس ظبيٌ أدعج

ممَّنْ يروقُك منه رِدفٌ مُرْدَفٌ عَبلٌ وخصرٌ ذو اختصارٍ مُدْمَج

محمد شهاب الدين:

جعل الربط بين ردف وخصر مثل ربط المنطوق بالمفهوم

علي الغراب االصفاقسي:

لهُ وهمُ خصر ناحل من وصاله أخفّ وردفٌ من غرامي أثقلُ

كمال الدين بن النبيه:

قَضِيبُ بانٍ إِذْا ما خَفَّ أَثْقَلَهُ كَثِيبُ رَمْلٍ بَطْيءِ النَّهْضِ رِعْدِيدِ

خَصْرٌ وَِرْدٌف كَأَنَّ البَنْدَ بَيْنَهُما مُفَرِّقٌ بَيْنَ مَعْدُومٍ وَمَوْجُودِ

إبراهيم الحضرمي

ولولا بياض وارتجاج بردفها ولين لخلت الردف رملاً ملبداً

ابن هانئ الأندلسي:

ثَقُلَتْ روادفُها وأُدمِجَ خَصُرها فأتَتْكَ بينَ مُفَعَّمٍ ومُخَمَّص

إبراهيم الطباطبائي:

فقضيب يميل فوق كثيب وكثيب يهيل تحت قضيب

ابن رزيق:

إِذا ماسَ ماسَ البان في وَشْيِ بُرْدِهِ وماجَ كثيبٌ حولَهُ الحتفُ رَاكدُ

ابن الخياط:

وَمِسْنَ فَكَمْ قَضِيبٍ فِي كَثِيبٍ يَشُوقُكَ بِاهْتِزازٍ فِي ارْتِجاجِ

مهيار الديلمي:

بيضاءَ يُقعدِها كثيبٌ أهيلٌ طوراً ويُنهضها قضيبٌ أهيفُ

عبد الغني النابلسي:

بدر تمٍّ على قضيبٍ تثنّى في كثيبٍ بها عن المشي أبطا

عروة بن أذينة

عَهدي بِها قُسِمَت نِصفِينِ أَسفَلُها مِثلُ النَقا مِن كَثيبِ الرَملَةِ الهاري

وَفَوقَ ذاكَ عَسيبٌ لِلوِشاحِ بِهِ مَجرىً لِكَشحِ أُلوفِ السَترِ مِعطارِ

صالح الكواز الحلي :

لم أشم قبل وجهه بدرتم فوق غصن على كثيب مهيل

خلفان بن مصبح:

تبدّت كالقضيب على كثيب وجلّت كالمنيرة في الليالي

وورد هذا البيت

والتَفَّ فَخذاها وَفَوقهما كَفَلٌ يُجاذِبُ خَصرِها نَهدُ

في الموسوعة الشعرية منسوبا لأبي الشيص الخزاعي من قصيدة مطلعها :

هَل بالطُلولِ لِسائلٍ رَدُّ أَو هَل لَها بِتَكَلُّمٍ عَهدُ

وهي ذات قصيدة دوقلة المنبجي، وورد في سيرة دوقلة في الموسوعة :

دوقلة المنبجي

? - ? هـ / ? - ? م

الحسين بن محمد المنبجي، المعروف بدوقلة.

شاعر مغمور، تنسب إليه القصيدة المشهورة باليتيمة، ووقعت نسبتها إليه في فهرست ابن خير الأندلسي وهي القصيدة التي حلف أربعون من الشعراء على انتحالها ثم غلب عليها اثنان هما أبو الشيص والعكوك العباسيان، وتنسب في بعض المصادر إلى ذي الرمة، وشذ الآلوسي في بلوغ الأرب فجعلها من الشعر الجاهلي، وتابعه جرجي زيدان في مجلة الهلال (14-174)، وخلاصة القول أن القصيدة كانت معروفة منذ القرن الثالث الهجري عند علماء الشعر، وأول من ذهب أنها لدوقلة هو ثعلب المتوفى سنة 291هـ.

لننظر في تلك التشابيه المتقدمة وتفاوتها في التوفيق والصور وحسن التعبير ثم لنحاول أن ننظر في هذا السياق إلى قول شاعرنا :

بين خصر إشتراكي وردف رأسمالي

ولنحاول تصنيفه بين هذه الأبيات ، إني لأراه من أجملها ولعل للبلاغيين تفصيلا في هذا.

وهذا النص تجسيد لما ذكرته من امتداد شعره لمدى عبر العصور، فهنا صورة قديمة معبر عنها تعبيرا حيثا.

ثم هنا أمر آخر ألاحظه هو أن هذا الشطر فصيح مائة بالمائة وكأن ارتقاء الصورة والتعبير بلاغيا وثقافيا استدعى لدى الشاعر اللغة الفصحى نحوا وتعبيرا كما يليق بمضمونه.

ولو أن هذا الشطر وضع على هذا النحو :

بين خصر إشتراكيْـ (م) ـيٍ وردف رأسمالي

2 3 2 2 3 2 .....2 3 2 2 3 2

لكان مجزوء الرمل ولنا أن نتصور هذا النص المنسوج على غرارها بالفصحى وزنا (لا بلاغة ) :

بين خصر إشتراكيْـ (م) ـيٍ وردف رأسمالي

راح ملهوف يغني من هواها ( ويل حالي )

كل ما فيها جميلٌ فهي رمز للجمال

(هالة دون المصلّّى) يغفر الله ضلالي

(حولت وجه المصلى) من جنوب لشمال

ليت بعض شعراء المنتدى يختارون عبارات من القصيدة ويعدلون فيها بما يجعلها نسيجا من قصيدة فصيحة سوا على هذا الروي أو سواه.

والآن لنقارن بين وزن هذه القصيدة وقصيدة ( ناقتي يا ناقتي )

بين خصر اشتراكيـ.......ـيٍّ وردف رأسمالي = 2 3 2 2 3 2 2 3 2 2 3 2

ناقــتي يا ناقــتي ......لا رباع ولا سديس = 2 3 2 2 3 ...........2 3 2 2 3

كل من الوزنين يمكن اعتبارهما من الرمل

ولكن جمع كل من الشطرين في شطر واحد ليعطينا الشطر التالي لكل منهما

بين خصر أشتراكي وردف رأسمالي = 2 3 4 3 4 3 4 3 2

ناقـتي يا ناقـتي لا رباع ولا سديس = 2 3 4 3 2 3 2 2 3 ه

جعل الاختلاف بينهما في الرقمين الملونين.

وذكرت الأستاذة نادية الحسين أن كليهما من ( الرمل المربوع ) أي الذي تكررت تفعيلته 2 3 2 أربع مرات في الشطر.

وأتفهم ذلك باعتبار أن (شطر ناقتي ) = ( 2 3 4 3 ) + ( 2 3 4 3 2 ) شطران من الرمل جمعا في شطر واحد

مثلما أن ( شطر دثريني يا منيرة ) = ( 2 3 4 3 2 ) + ( 2 3 4 3 2 ) شطران من الرمل جمعا في شطر واحد

وهذا القول الذي يتضمن تفعيلة محذوفة في الحشو ( أي الذي تحولت فيه 2 3 2 إلى 2 3 ) لا يصح في الفصيح فإنما يكون الحذف فيي آخر الشطر. ولهذا فهو بمقياس الفصيح:

صحيح في 2 3 2 2 3 2......2 3 2 2 3 2

وغير صحيح في 2 3 2 2 3 2 2 3 2 2 3 الذي يبقى رده للمديد أولى كما تقدم

والمديد في الفصيح مجزوء وجوبا ولكنه على الدائرة = فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن = 2 3 2 2 3 2 3 2 2 3

وإذن فإن ناقـتي يا ناقـتي لا رباع ولا سديس = 2 3 4 3 2 3 2 2 3 ه

من المديد التام وهو يوافق القالب رقم 28 من قوالب د. الصويان:

http://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/qawalib

ويمكن اعتباره : فاعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن فيكون بمنطق تسميات البحور المهملة مقلوب البسيط.

وللحديث بقية بإذن الله.