maqalaat

هذه السلسلة من ( مقالات في موسيقى الشعر) للدكتور عبد العالي مجذوب جديرة بأن تقرأ وقد رأيت جمعها في هذه الصفحة

وما سأضيفه من تعليق سأجعله باللون الأزرق وغالبا ما سيكون إشارة إلى ما يتواشج مع الموضوع مما تم عرضه في العروض الرقمي.

مقالات في ‘موسيقى الشعر’ (1)

وبعد، فإني أعدّ هذه المقالات مشاركةَ مني، وإن كانت متأخرة، في تكريم الأخ الفنان المبدع (محمد العربي أبو حزم)؛ ولئن كان تعذر علي أن أحضر حفل مراكش لتكريم هذه الموهبة المتفتحة الواعدة المقتحمة المتوكلة على الله، فإني أرجو أن تتدارك هذه المقالات ما فاتني في هذه المناسبة، لأني أنشرها بنِـيّة المشاركة في هذا التكريم.

وخيرا فعل الإخوة والأخوات في مراكش، لأن الناس عوّدونا أن يكون التكريم بعدما يبلغ الإنسان من العمر عتيا، وهناك عباقرة أفذاذ لم يُـلتفت إليهم ولم يعرف الناس قدرهم إلا بعد موتهم. وإني لمَعَ التكريم والمُكَرَّم (بصيغة المفعول) في عنفوان العطاء والإبداع، ليكون ذلك اعترافا وتقديرا إيجابيا للجهد المبذول، وحافزا مشجعا على مزيد من الحفر والتنقيب والاستكشاف.

حياك الله يا أبا حزم، واعلمِ أني ممن يتابعون، بجد واهتمام، إبداعاتك، المقروءة والمسموعة، على الأقل ما أستطيع الوصول إليه منها. وإني لأحيي فيك غيرتك القوية الراسخة على الفن، كما أحيي أسلوبك المتميز في المعالجة والنقد والتقويم والترجيح، وخاصة في ميدان بات يمتاز، في زماننا، بحساسية بالغة وخطورة وأهمية نلمسهما في حياتنا الاجتماعية والنفسية، بل وفي حياتنا السياسية والاقتصادية أيضا. أسلوب ينم عن اطلاع وخبرة ومعرفة بالميدان، وعن اقتدار على امتلاك ناصية المصطلحات والمفاهيم في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، وأصبح بين الناس ودعوى الإبداع والعبقرية إلا أن يكتبوا أو يقولوا متمردين على الحدود، وخالطين بين المفاهيم، وساطين على المصطلحات عنوة… وعاشت الحداثة… !!!

والذي يعجبني أكثر عند أبي حازم هو الجدّة والتميز في طرح الموضوع، وكذلك الجرأة الاجتهادية “المحترفة” في التناول والنقد والتقويم والنظر إلى الآفاق البعيدة. أما اللغة وطريقة العرض، فهي شكل آخر من أشكال التلحين والتوقيع والعزف بالكلمات؛ جمال ورونق وسلاسة وسلامة وبهاء، (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم).

بارك الله في عمل أخينا الفنان أبي حازم، وزاد موهبته تفتحا معطارا وإبداعا شفيفا جميلا وتفكرا شاملا مقتدرا، لخدمة ذوق الإنسان ورفعة عواطفه ومشاعره وسمو سبحات خياله وأمانيه.

يدور مضمون هذه المقالات على بحث نظري في “موسيقى الشعر”، أركز فيه على تبيان أهمية “الوزن” في الإبداع الشعري، وأن الشعر العربي، منذ اكتمل نضجه، لم يزل لصيقا بصناعة الألحان، نظما وإنشادا ودندنة. وسأختم بمقالة تبين تهافت دعوى الحداثيين اللادينيين المتطرفين أن التحديث حكم حكمه المبرم أن يموت “الوزن” أصلُ كل الشرور، في زعمهم وحكمهم النهائي الظالم، ليحل محله “الإيقاع” بما حمّلوه من مفهوم فضفاض لا علاقة له بصناعة الشعر، وإنما هو، عند التحقيق، الادعاء والفوضى وفساد الذوق.

وإلى المقالة الأولى، متمنيا للقراء الأعزاء قراءة مفيدة وممتعة، أي قراءة “جميلة”.

الشعر والغناء

“الغناء حلّة الشعر، إن لم يلبسها طُويت.” (العمدة، لابن رشيق: 1/39)

“الصناعة الشعرية هي رئيسة الهيئة الموسيقية…” (كتاب الموسيقى الكبير، لأبي نصر الفارابي: 3/1093)

لقد اقتبست عبارة “موسيقى الشعر” من عناوين بعض الكتب، ككتاب “موسيقى الشعر”، للدكتور إبراهيم أنيس، وكتاب “موسيقى الشعر العربي” للدكتور شكري عيّاد.

ولعل مخترع هذه العبارة كان موفقا، إلى حدّ كبير، في إضافة الموسيقى إلى الشعر، لأنها إضافة تربط بين فنين اثنين، المضاف والمضاف إليه، كلاهما ينتمي انتماء طبيعيا-أقول طبيعيا، وليس فلسفيا أو أكاديميا على سبيل الدراسة الفكرية- لجنس أوسع وأشمل هو جنس تركيب الأصوات وتأليف الألحان.

فالأصوات، بخصائصها، وأنواعها، وأوصافها، وتعدد صور تأليفها وأشكال أدائها، هي جنس يشمل، فيما يشمل من الأنواع، فنَّـيْ الشعر والموسيقى. وفي بعض المصادر ترد الإشارة إلى فن الموسيقى بعبارة “علم الألحان” و”صناعة الألحان” (العقد الفريد، لابن عبد ربّه: 7/3)، وعبارة “صناعة الإيقاع” (المزهر، للإمام السيوطي: 2/470)، وعبارة “تأليف اللحون”(البيان والتبيين، للجاحظ: 1/208).

وقد عرّفوا الموسيقى بأنها “صناعة في تأليف النغم والأصوات ومناسباتها وإيقاعاتها وما يدخل منها في الجنس الموزون والمؤتلف بالكمية والكيفية.”(كتاب الموسيقى الكبير، لأبي نصر الفارابي: 1/15)

وعرّفوا الإيقاع بأنه “هو نظم أزمنة الانتقال على النغم في أجناس وطرائق موزونة تربط أجزاء اللحن، ويتعين بها مواضع الضغط واللين في مقاطع الأصوات.”(نفسه: 2/436، هامش رقم(1))

وقد وضح أبو نصر الفارابي الفيلسوف “أن الموسيقى والشعر يرجعان إلى جنس واحد هو التأليف والوزن والمناسبة بين الحركة والسكون. فكلاهما صناعة تنطق بالأجناس الموزونة. والفرق بينهما واضح في أن الشعر يختص بترتيب الكلام في معانيها على نظم موزون، مع مراعاة قواعد النحو واللغة. وأما الموسيقى فهي تختص بمزاحفة أجزاء الكلام الموزون، وإرساله أصواتا على نسب مؤتلفة بالكمية والكيفية في طرائق تتحكم في أسلوبها بالتلحين.” (كتاب الموسيقى الكبير: 1/16-17)

العروض العربي هيكمي

https://sites.google.com/site/alarood/kam-wa-hayaah

وارتباط الشعر بالموسيقى، وبالغناء تحديدا، قديم في التاريخ. وقد استنتج الدكتور البهبيتي، في دراسته لتاريخ الشعر العربي، أن عهد اقتران الشعر بالغناء، عند العرب، هو عهد قديم “لا يمكن أن يقع في حدود المائتي سنة السابقة للإسلام، وهي الفترة التي يقع فيها شعر شعراء الجاهلية المعروفين لنا جميعا.” (تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري، ص92)

وفي الموشح، للمرزباني، عن عبد الله بن يحيى، قال: “كانت العرب تغنّي النَّصْبَ، وتمد أصواتها بالنشيد، وتزن الشعر بالغناء؛ فقال حسان بن ثابت:

تغنّ بالشعر إمّا كنت قائلـــه *** إن الغناء لهذا الشعر مضمــار.” (الموشح، ص52-53)

قال ابن رشيق: “فأما النّصْبُ فغناء الركبان والفتيان، قال أبو إسحاق بن إبراهيم الموصلي: وهو الذي يقال له المرائي، وهو الغناء الجنابي، اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله بن هبل، فنسب إليه، ومنه كان أصل الحُداء كله، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض.” (العمدة: 2/313)

وذهب ابن رشيق إلى أن “غناء العرب قديما على ثلاثة أوجه: النّصب، والسّناد، والهزج.

“فأما النصب فغناء الركبان والفتيان&

“وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع، الكثير النغمات والنبرات&

“وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدفّ والمزمار، فيطرب، ويستخف الحليم.

“قال إسحاق: هذا كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام.” (العمدة: 2/313-314)

ويطلق الهَزَجُ، في اللغة، على الرّنة، وعلى الصوت المطرب، والصوت الذي فيه بَحَح، والصوت الدقيق مع ارتفاع. ويطلق، أيضا، على كل كلام متقارب متدارك، كما يطلق على الخفة وسرعة وقع القوائم ووضعها. وقيل: التهزّج صوت مطوّل غير رفيع& (لسان العرب: مادة(هزج)). وهذه المعاني كلها تدل على أن هناك نوعا من الإيقاع الموسيقي.

والهزج، في الاصطلاح العروضي، هو الذي يجيء وزنه على “مفاعيلن” أربع مرات، وهو في الدائرة الثالثة مع الرجز والرّمل.(انظر كتاب “المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها”، للدكتور عبد الله الطيب: 1/104 وما بعدها، وكتاب “الكافي في العروض والقوافي”، للخطيب التبريزي، ص73 وما بعدها).

ومن أنواع الغناء التي عرفتها الحياة البدوية العربية، والتي لم تكن تنفك، في أدائها، عن شكل من أشكال الإيقاع الموسيقي، الحُداءُ والتّغْبير.

أما الحداء فهو سوق الإبل بالغناء لها. وقد كان الإيقاع الموسيقي حاضرا في أصل نشأة الحداء. فمن الروايات التي رويت في هذا الصدد، أن مضر بن نزار “سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول: وايداه، وايداه، وكان أحسن خلق الله جرما وصوتا، فأصغت الإبل إليه وجدّت في السير، فجعلت العرب مثالا لقوله: “هايداه هايداه” يحدون به الإبل.” (العمدة: 2/315). راجع روايات أخرى في أصل ظهور الحداء في المصدر نفسه: (2/314-315).

“وأما التغبير فهو تهليل أو تردد صوت، بقراءة أو غيرها، حكى ذلك ابن دريد.”(العمدة: 2/315)

“وحكى أبو إسحاق الزجاجي قال: سألني بعض الرؤساء: لم سُمّي التغبير تغبيرا؟ قلت: لأنه وضع على أنه يُرغّب في الغابر، أي الباقي، أي يرغب في نعيم الجنة وفيما يعمل للآخرة.”(العمدة: 2/315)

وقال الأزهري: “وقد سمّوا ما يطرّبون فيه من الشعر في ذكر الله تغبيرا، كأنهم إذا تناشدوها بالألحان طرّبوا فرقصوا وأرهجوا [أثاروا الرَّهَج أي الغبار]، فسُمُّوا مُغَبَّرة.” لسان العرب: مادة(غبر)). ومعنى التغبير، في اللغة، إثارة الغبار، وكذلك الإغبار.

وقد أكد الجاحظ رجوع هذه الأنواع الغنائية، في أصلها، إلى صناعة الألحان، حيث ذكر أن الرجل قد “تكون له طبيعة في الحُداء أو في التغبير، أو في القراءة بالألحان، وليست له طبيعة في الغناء، وإن كانت هذه الأنواع كلها ترجع إلى تأليف اللحون.” (البيان والتبيين: 1/208)

وهناك بعض الأوزان الشعرية يرتبط اسمها، في الاصطلاح العروضي، بنوع من الإيقاع المحسوب الحركات والوقفات، كالخبب والرجز مثلا. فـَ”الخبَبُ ضرب من العدو& وقيل الخببُ السرعة”(لسان العرب: مادة(خبب)). وقيل في وزن الخبب إنه “يشبَّه بالرجز في رجل الناقة ورِعْدَتها، وهو أن تتحرك وتسكن، ثم تتحرك وتسكن& وقال الأخفش مرة: الرجز، عند العرب، كل ما كان على ثلاثة أجزاء، وهو الذي يترنّمون به في عملهم وسوقهم ويحدون به& ” (نفسه: مادة(رجز))

ويرى الدكتور عبد الله الطيب، رحمه الله، أن الخبب- وقد عدّه في الأوزان القصار- لا يصلح “إلا للحركة الراقصة الجنونية” (المرشد:1/80)، وأن بعض أوزان الرجز القصير، وهما وزنان- الأول يكون بتكرار “مستفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلْ” مرّتين، والثاني بتكرار “مُتَفْعِلُنْ” أربع مرّات- “يصلحان جدّا للأناشيد المدرسية وما بمجراها من أشعار الصغار.” (نفسه: 1/81)

وقد أورد صاحب “العقد الفريد”، في “كتاب الياقوتة الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه”، أخبارا وحكايات تفيد كلها شدة هذا الارتباط والتلازم الذي كان بين الشعر والغناء في الحياة العربية.

وفي حديث من هذه الأحاديث أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال للنابغة الجعدي الشاعر: “أسمعني بعض ما عفا الله عنك من غنائك. فأسمعه كلمة له. قال[أي عمر]: وإنك لقائله؟ قال: نعم. قال: لطالما غنّيْت بها خلف جمال الخطّاب.” (العقد الفريد: 7/9-10). راجع أمثلة أخرى من هذه الأحاديث في الكتاب المشار إليه من هذا المصدر.

وفي هذا الغرض قال ابن عبد ربه: “وإنما جعلت العرب الشعر موزونا لمدّ الصوت فيه والدّندنة، ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور.” (نفسه: 2/8)

“ويقولون: فلان يتغنّى بفلان أو بفلانة، إذا صنع فيه شعرا. قال ذو الرّمة:

أحبّ المكان القفر من أجل أننـي *** به أتغنّى باسمها غير مُعْجِــــمِ.

“وكذلك يقولون: حدا به إذا عمل فيه شعرا. قال المرار الأسدي:

ولو أنّي حدوْتُ به ارفأنّت *** نعامته وأبصر ما يقــول.” (العمدة: 2/313)

ارفأنّت: اطمأنت وسكنت.

وقد كان الشعراء يستطيعون معرفة عيوب شعرهم بالغناء، كما في خبر النابغة الذبياني حين دخل إلى المدينة، “فقالوا له: قد أَقْـوَيْت في شعرك، وأفهموه فلم يفهم، حتى جاؤوه بقينة فجعلت تغنّيه: “أمن آل ميّة”، وتبيّنُ الياء في “مزودِ” و”مغتدِي”.

“ثم غنت البيت الآخر فبينت الضمة في قوله: “الأسودُ” بعد الدال. ففطن لذلك، فغيّره، وقال: “وبذاك تنعابُ الغراب الأسودِ””(الموشح، ص52). والإقواء في الشعر هو رفع بيت وجر آخر، ومثال ذلك قول النابغة من قصيدته المخفوضة التي مطلعها:

أمن آل ميّة رائح أو مغتــــدي *** عجلان ذا زادٍ وغير مُــــــزوّدِ

زعم البوارحُ أن رحلتنا غــــدا *** وبـذاك خبّرنا الغرابُ الأســــودُ. (الموشح، ص51).

والبوارح: ما يتشاءم به من طير أو وحش.

وقد ورد في أشعار المتقدّمين ما يفيد أن تعاطي الغناء بالأشعار كان معروفا عندهم منذ القديم، كقول أبي النجم يصف قينة:

تغنّيْ فإن اليوم يومٌ من الصّبــــا *** ببعض الذي غنّى امرؤُ القيس أو عمرو

فظلت تغنّي بالغبيط وميلـــــه *** وترفع صوتا في أواخره كســـــــرُ.(الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص54)

وقول عبدة بن الطبيب، من قصيدته التي مطلعها:

هل حبل خولةَ بعد الهجر موصولُ *** أم أنت عنها بعيد الدار مشغـولُ

(& )

ثم اصطحبتُ كُميتا قَرْقَفاً أُنُفـا *** من طيّب الراح، واللذات تعليـلُ

صرفاً مزاجا، وأحيانا يعلّلُنــا *** شعرٌ كمُذهبة السمَّان محمــولُ

تُذْري حواشِيَهُ جيداءُ آنســـةٌ *** في صوتها لسَمَاع الشَّرْب ترتيـلُ.(المفضّليات: المفضلية رقم(26)، ص145)

القرقف: التي تصيب شاربَها رعدة. السمان: الأصباغ التي تزوق بها السقوف. تذريه: ترفعه.

وقول طرفة من معلقته المشهورة:

ندامايَ بيضٌ كالنجوم وقينـــــةٌ *** تروح علينا بين بُردٍ ومُجْســــــد

رحيبٌ قطاب الجيْب منها رفيقـــةٌ *** بجَسِّ النّدامى، بضَّةُ المتجــــــرَّد

إذا نحن قلنا أَسمعينا انبرتْ لنــــا *** على رسلها مطروفةً لم تَشـــــَدّد

إذا رجّعت في صوتها خلت صوتهـا *** تجاوبَ أظآرٍ على رُبَـــــعٍ رَدِيْ. (شرح المعلقات العشر، للدكتورين ياسين الأيوبي وصلاح الدين الهواري، ص100-102)

المُجسد: الثوب الذي يلي الجسد. المتجرَّد: الجسد العاري من الثياب. مطروفة: فاترة الطرف. رُبَعٍ رَدِي: الهالك من ولد الإبل.

وقول مزرّد بن ضرار الذبياني، من قصيدته التي مطلعها:

صحا القلب عن سلمى وملَّ العواذلُ *** وما كاد لَأْيًا حبُّ سلمى يزايــــلُ.

فقد علموا في سالف الدّهر أننــي *** معنٌّ إذا جدَّ الجِراءُ ونابــــــلُ

زعيمٌ لمن قاذفته بأوابـــــدٍ *** يغنّي بها الساري وتُحدى الرّواحــلُ. (المفضليات: المفضلية رقم(17)، ص100)

المِعَنُّ: المعترض. الجِراءُ: الجري. النابِل: الحاذقُ. الأوابد: أراد بها ما يهجوهم به من الشعر.

كما ورد في أشعارهم ما يفيد أنهم كانوا يستعينون، في الغناء ببعض الآلات الموسيقية، كالصَّنْج في قول الأعشى(ميمون بن قيس):

ومستجيب لصوت الصنج يسمعه *** إذا تُرجّع فيه القينةُ الفُضُـــلُ (الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص154)

والصنج هو نوع من الآلات الوترية تشبه العود، يعزف عليها. وقيل هو الدّف ونحوه، وهو معرّب.

والمِزْهَر في قول علقمة بن عبدة الفحل، من قصيدته التي مطلعها:

هل ما علمت وما استودعت مكتــومُ *** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصــــــروم

قد أشهد الشَّرْب فيهم مِزهر رنِـــمٌ *** والقوم تصرعهم صهباءُ خُرطُـــــوم (المفضليات: المفضلية رقم(20)، ص402)

المزهر: آلة العود. الرّنم: المترنّم. الخُرطوم: أول ما ينزل من عصير العنب خمرا صافية.

وهكذا نرى أن كلمات مثل، الترنّم، والترنيم، والترتيل، والترجيع، والتغني، والدندنة، وكذلك الصنج، والمزهر، والقينة، وأشباهها من المفردات الغنائية الاصطلاحية، وأسماء الآلات الموسيقية، لم تكن غريبة عن صناعة الشعر العربي منذ أقدم العصور. بل يمكن القول إن هذه المفردات كانت من صميم عمل الشعر، لما بينها وبين أوزان الشعر من صلات قرابة قوية، هي قرابة تركيب الأصوات وتلحينها وأدائها في صورة جميلة ومطربة.

ولعل أبا نصر الفارابي لم يكن مبالغا حين قرر أن “الصناعة الشعرية هي رئيسة الهيئة الموسيقية، وأن غاية هذه أن تطلب لغاية تلك.” (كتاب الوسيقى الكبير: 3/1093)

كانت هذه أمثلة من الأخبار والأشعار، وجملة من النصوص استأنست بها هذه المقالة للتدليل على أن الشعر والموسيقى، في صورة من صور أدائها المتعددة، البدائية أو المتطورة، كانا دائما متلازمين ومتصاحبين لا يفترقان، تجمعهما صناعة الأوزان والألحان والإيقاع، وأن هذا التلازم والتصاحب يرجع، في تاريخه، إلى أقدم العصور.

يمكن مراجعة هذا الموضوع (علاقة الشعر بالموسيقى) بشيء من التوسع في الفصل الثاني حول “الموسيقى والصنعة”، من الكتاب الأول في كتاب “الفن ومذاهبه في الشعر العربي”، للدكتور شوقي ضيف، ص41-90. وحول “الشعر والغناء”، في كتاب “تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري”، للدكتور نجيب محمد البهبيتي، ص89 وما بعده. وحول “الموسيقى في الحجاز وأثرها في الشعر”، في المرجع نفسه، ص129-147.

مقالات في ‘موسيقى الشعر’ (2)

رُكْنيَّة الوزن في صناعة الشعر العربي

د. عبد العالي مجدوب / Abdelali_majdoub@yahoo.fr

“الوزن أعظم أركان حدّ الشعر” (العمدة، لابن رشيق: 1/134)اتفاق قُرُوني منذ استوى الشعر العربي فنا مكتملا، في عناصره ومقوّماته، وإبداعا جميلا، في أسلوبه وتصويراته – منذ كان الشعر العربي شعرا والنقاد، على اختلاف مشاربهم وتباين مناهجهم، متفقون على كون “الوزن” ركنا أساسا من أركانه، إذا سقط سقطت معه شعرية هذا الشعر.

وأذكر أن هذه المقالة ليست لمعالجة علم أوزان الشعر، ولذلك لن يكون من شأننا هنا أن نغوص في التفصيلات العروضية عامة، والجزئيات المتعلقة بالوزن الشعري خاصة. وإنما همي، أساسا، هو عرض الأفكار الجوهرية التي تتعلق بهذا الموضوع، وتسجيل الملاحظات المنهجية والمضمونية الفنية التي أراها ضرورية ومفيدة في رسم صورة واضحة للمقولات الحداثية، وكذلك ملامح الاختيارات البديلة في شأن موسيقى الشعر، التي تتبناها التجارب الحداثية، وعلاقة هذه الاختيارات وتلك المقالات بالأصول التراثية. هذه الأصول التي ما تزال تهيمن على الأفكار والدراسات والأطروحات الدائرة حول مبحث الوزن الشعري، بل وتهيمن حتى على أشكال البدائل التي تقترحها بعض الدراسات الحديثة.

وكون الوزن ركنا أساسا من أركان الشعر لا يعني، على الإطلاق، إبطال أهمية العناصر الأخرى، بل الأركان الأخرى، في إقامة ماهية الشعر.

فكل شعر هو موزون وجوبا، وليس كل موزون شعرا.

وقد سبق النقاد القدامى إلى توضيح هذه المسألة، وبينوا، على طريقتهم، أن “ليس كل من عقد وزنا بقافية فقد قال شعرا”(الموشح، ص400)، وأن “الشعر أبعد من ذلك مراما، وأعز انتظاما.”(نفسه)

وهذا ابن خلدون- وهو معدود في المتأخرين زمانا- يشرح في فصل عقده لِـ”صناعة الشعر ووجه تعلمه”، أن الكلام الذي ينعقد به الشعر، فضلا عن الوزن، لا بد أن يجري على “أساليب العرب المخصوصة به& لأن الشعر له أساليب تخصّه لا تكون للمنثور.”(المقدمة: ص475)

ويقصد ابن خلدون بهذه الأساليب الخاصة أن يكون الشعر كلاما بليغا مبنيا على الاستعارة والأوصاف(نفسه)، “فما كان من الكلام منظوما وليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا.”(نفسه، ص401. انظر، في هذا المعنى أيضا، “منهاج البلغاء وسراج الأدباء”، لحازم القرطاجني، ص27،28.)

أما الفلاسفة الذين عنوا في تنظيراتهم وأبحاثهم بصناعة الشعر، فقد ركّزوا، في تعريفهم للشعر، على ركنين أساسين اثنين، هما الوزن والمحاكاة أو التخييل. فلا يقوم شعر، عندهم، إلا بهما.

وقد ميّز الفلاسفة بين أنواع من الكلام، وقصروا الشعر على الكلام الذي تستعمل فيه اللغة استعمالا يمتاز بفنيته وجماليته وإبداعيته. وهذا الاستعمال المتميز للغة هو الذي يصطلح على تسميته، عند الفلاسفة، بالمحاكاة أو التخييل. والتخييل، عند السجلماسي “هو موضوع الصناعة الشعرية”، ويشمل أربعة أنواع: التشبيه والاستعارة، والتمثيل والمجاز.(المنزع البديع، ص218). يُراجع عن المحاكاة والتخييل وغيرهما من الموضوعات المتعلقة بنظرية الشعر عند الفلاسفة كتابُ “نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد”، للدكتورة إلفت كمال الروبي.

ومن الفلاسفة من جعل ركنية المحاكاة مقدمة على ركنية الوزن، وهذا كله ليبينوا أن الوزن ليس هو كل شيء في الشعر. فأعظم هذين الركنين عند أبي نصر الفارابي، “في قوام الشعر هو المحاكاة وعلم الأشياء التي بها المحاكاة، وأصغرهما الوزن.”(كتاب الشعر، تحقيق الدكتور محسن مهدي، منشور في مجلة “شعر”، العدد12، السنة3، خريف 1959، ص92)

ولتأكيد أهمية المحاكاة في صنعة الشعر وأن الوزن وحده فيها لا يكفي، يقول الفارابي: “وكثير من الشعراء الذين لهم أيضا قوة على الأقاويل المقنعة يضعون الأقاويل المقنعة ويزنونها فيكون ذلك عند كثير من الناس شعرا، وإنما هو قول خُطْبي عدل به عن منهاج الخطابة.”(نفسه، ص93). ويشير محقق النص الدكتور محسن مهدي في الهامش رقم(3)، إلى أن عبارة “الشعر إلى منهاج” قد تكون سقطت من النص بين كلمتي “منهاج” و”خطابة”. وقد أوردت الدكتورة إلفت كمال الروبي هذا النص بزيادة هذه العبارة التي افترض المحقق سقوطها، في كتابها “نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين”، ص231.

وهذا هو أيضا مذهب ابن سينا. فليس الوزن وحده، عنده، هو كل شيء في الشعر. يقول ابن سينا: “وقد يعرض لمستعمل الخطابة شعرية، كما يعرض لمستعمل الشعر خطابية. وإنما يعرض للشاعر أن يأتي بخطابية، وهو لا يشعر إذا أخذ المعاني المعتادة والأقوال الصحيحة التي لا تخييل فيها ولا محاكاة، ثم يركبها تركيبا موزونا. وإنما يغتر بذلك البُلْه، وأما أهل البصيرة، فلا يعدّون ذلك شعرا. فإنه ليس يكفي للشعر أن يكون موزونا فقط.”(الخطابة، ص204. نقلا عن “نظرية لشعر عند الفلاسفة المسلمين”، للدكتورة إلفت كمال الروبي، ص232)

ونرجع، بعد هذا الاستطراد التوضيحي، إلى ما كنا فيه من حديث عن إجماع النقاد على ركنية الوزن في قوام الشعر.

لقد وصف النقاد، عبر مختلف العصور، هذه الحقيقة بعبارات تراوحت بين الإيجاز المركز والتطويل المستفيض. فمثال الإيجاز المركز عبارة قدامة بن جعفر المشهورة، في تعريف الشعر: “إنه قول موزون مقفى يدل على معنى”(نقد الشعر، ص64)، وقول أبي العلاء المعري، على لسان إحدى شخصياته في رسالة الغفران: “والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط، إذا زاد أو نقص أبانه الحس.”(رسالة الغفران: ص103، طبعة دار الكتب العلمية)، وقول السجلماسي: “الشعر هو الكلام المخيل المؤلف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة& “(المنزع البديع، ص218). وهذا التعريف يطابق تعريفا من تعريفات ابن سينا الفيلسوف.(انظر “نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين”، ص84)

ومثال التطويل قولُ حازم القرطاجني: “الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه& بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيئة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته، أو بمجموع ذلك.”(منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص71)

وقوله في مكان آخر: “الشعر كلام مخيل موزون، مختص في لسان العرب بزيادة التقفية إلى ذلك، والتئامه من مقدمات مخيلة، صادقة كانت أو كاذبة، لا يشترط فيها-بما هي شعر- غير التخييل.”(نفسه، ص89)

وقول ابن خلدون: “الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به.”(المقدمة، ص475)

وقد امتازت مقالات الفلاسفة خاصة، في وزن الشعر، ببعض الإضافات التي اقتضاها طابع ثقافة العصر، واتساع مجال الاطلاع ونطاق التواصل، وتعدد مصادر العلوم والحضارة والثقافة. تُراجع، مثلا، مقالات الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، في موضوع “الوزن والموسيقى”، في كتاب “نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين”،(م.س)، ص231 وما بعدها. وراجع، في المرجع نفسه، مقالاتهم في تعريف الشعر، ص71 وما بعدها.

لكن هذا الاختلاف والتنوع والغنى في أوجه التناول وأسلوب المعالجة لم يمس جوهر الاتفاق على أن الوزن ركن أساس وضرروي في تحقق شعرية الشعر.

“اللغة الشاعرة” ونابتة الإديولوجية الحداثية الهدْمية ومع تطور الفلسفة الحداثية العربية وبداية انتشارها في الخمسينات، بدأت تظهر بوادر مراجعة هذا الاتفاق “القروني”، وبدأت تُسمع في الأوساط الأدبية أصوات تنادي بمراجعة كل ما له صلة بالتراث الأدبي والنقدي.

ولم تزل هذه الأصوات تتعالى، وتكبر، ويتسع مدى صداها، تظللها وتزكيها وتدعمها الإديولوجية الحداثية العنفية المتطرفة، حتى استوت نظريةً كاملةً، ليس لها من لغة في قراءة التراث، مهما كانت قيمة هذا التراث، إلا لغةُ التجاوز، والهدم، والرفض، وأصبح يكتب ويُنشر أنه يمكن أن يكون هناك فن شعري عربي من غير وزن.

وتقوم اعتراضات هذا التيار الحداثي الإديولوجي الرافض على دعوى أن اتفاق النقاد على ركنية الوزن في قيام فن الشعر إنما هو اتفاق “رجعي” يمثل عصورا ساد فيها التفكير من خلال النموذج والقاعدة المسبقة، ولم يكن يسمح للإرادات والأفكار أن تتحرر لتبدع وتجتهد في إيجاد أشكال جديدة، مما أعطى للنموذج الموروث، والقاعدة المسبقة سلطة قامعة كابحة، موجهة إلى الوراء، إلى الماضي، والحال أن الزمان يسير إلى الأمام، إلى المستقبل.

هذا هو ملخص دعوى المعترضين. وسأعود، في مقالة لاحقة، إن شاء الله، إلى مناقشة بعض الآراء والأطروحات في هذه الدعوى.

أما الآن، فأسأل سؤالا أراه جوهريا في هذا السياق، وهو: لماذا كان للوزن كل هذه الأهمية خلال هذه القرون الطويلة في تاريخ شعرنا العربي؟

ولماذا لا يزال للوزن حضوره الفني في زماننا المعاصر، رغم تميز العصر بطوفان الإديولوجيات الحداثية الهدمية، والفلسفات الطليعية العنفية، التي ترفض التراث جملة وتفصيلا؟. ومما يناسب التذكير به هنا أن أدونيس، في رسالةٍ بعث بها إلى أنسي الحاج من باريس، عبّر عن رفضه لِـ”كل ما هو موجود بالوراثة، بالتقليد، بالعادة”، وقال، واصفا هذا الأسلوب الرافض: “هذه طريقتنا& الوراثة، التقليد، العادة؟ يا لهذه المستنقعات المقدسة& “(من نص الرسالة في “زمن الشعر”، ص225-231).

ومهما كان جوابنا عن مثل هذه الأسئلة قويا، فإنه، في رأينا، لن يكون في القوة التي امتاز بها ردّ عباس محمود العقاد ومن على شاكلته من الأدباء والنقاد الكبار، في التصدي لدعاوى أنصار التجديد الشعري، والانتصار لركنية الوزن في صناعة الشعر العربي.

وقد كانت الدعامة الأساس في ردّ العقاد قائمة على الاحتجاج بأن الوزن في الشعر العربي لم يكن، في يوم من الأيام، شيئا غريبا مفروضا من خارج مقوّمات التجربة الشعرية، وإنما كان، دائما، عنصرا موجودا وجود لزوم في البناء الصرفي للكلمة العربية، التي هي المادة الخام في صناعة الشعر.

فاللغة العربية “لغة شاعرة”، لأن التركيب الموسيقي أصل من أصولها “لا ينفصل عن تقسيم مخارجها، ولا عن تقسيم أبواب الكلمات فيها، ولا عن دلالة الحركات على معانيها ومبانيها بالإعراب أو بالاشتقاق.”(اللغة الشاعرة، لعباس محمود العقاد، ص38).

“فإذا كان الشعر روحا يكمن في سليقة الشاعر، حتى يتجلى قصيدا قائم البناء، فهذه الروح في الشعر العربي يبدأ عمله الأصيل مع لبنات البناء، قبل أن ينتظم منها أركان القصيد.”(نفسه، ص15)

“وحسبنا أن نلاحظ في تركيب المفردات من الحروف أن الوزن هو قوام التفرقة بين أقسام الكلام&

“فالفرق بين: ينظر، وناظر، ومنظور، ونظير، ونظارة، ومناظرة، ومنظار، ومنظر، ومنتظر، وما يتفرع عليها هو فرق بين أفعال، وأسماء، وصفات، وأفراد، وجموع، وهو كله قائم على الفرق بين وزن ووزن، أو قياس صوتي وقياس مثله، يتوقف على اختلاف الحركات والنبرات، أي على اختلاف النغمة الموسيقية في الأداء.”(نفسه، ص17)

فالوزن إذاً أصيل في تركيب اللغة: “فالمصادر فيها أوزان، والمشتقات أوزان، وأبواب الفعل أوزان، وقوام الاختلاف بين المعنى والمعنى حركة على حرف من حروف الكلمة، تتبدل بها دلالة الفعل، بل يتبدل بها الفعل، فيحسب من الأسماء، أو يحتفظ بدلالته على الحدث حسب الوزن الذي ينتقل إليه.

“هذه أصالة& لا يستغرب معها أن يكون للوزن شأنه في شعر هذه اللغة، وأن يكون شأنها في نظم أشعارها على خلاف المعهود في منظومات الأمم الأخرى.”(نفسه، ص161). وانظر أيضا للمؤلف نفسه: “بحوث في اللغة والأدب”، ص71،81،85.

وقد ذهب الدكتور نجيب محمد البهبيتي إلى شيء قريب من هذا حين أكد “الارتباط الوثيق بين اللفظ ومدلوله[في اللغة العربية]، أي بين الجرس الصائت والمعنى المجرد أو المحسوس، ومدى تعبير هذا عن ذاك. وهي عملية موسيقية لا تتم إلا لمزاج حساس، دقيق الحس بالموسيقى.”(تاريخ الشعر العربي، ص93)

وهذا، عنده “في اللغة العربية أثر من آثار الشعر، وأنه تطور تَمَّ وقبلته النفس العربية، لأنه يتصل بمركب نفسي فيها، وأنه تمَّ في أجيال طويلة متلاحقة، وأنه لكي يتم اقتضى ذلك عصورا طوالا جدّا.”(نفسه)

فهذا الصمود “القروني” لركنية الوزن في قوام الشعر العربي، يرجع أساسا، إلى قيام أصول هذا الوزن في البناء الصرفي للمفردات، قبل أن تصاغ هذه المفردات صورا شعرية في بناء فني مكتمل.

هذا سبب أساس. وهناك أسباب أخرى وراء رسوخ خاصة الوزن في الشعر العربي، كوقع الكلام الموزون في النفس، عموما، ولذاذته في الطبع والسمع، وعلوقه بالذاكرة والخيال. ومن النقاد الذين تحدثوا عن الوزن اللذيذ أبو علي أحمد بن محمد المرزوقي، في “شرح ديوان الحماسة”، وذلك حين ذكر أن ما كان الشعراء يحاولونه “& التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن& لأن لذيذه يَطرب الطبع لإيقاعه، ويمازجه بصفائه، كما يَطرب الفهم لصواب تركيبه، واعتدال نظومه.”(1/9-10). انظر أيضا حازما القرطاجني، في حديثه عن التأليف الذي له حلاوة في المسموع، في “منهاج البلغاء”، ص267.

بين الوزن اللغوي الوضعي والوزن الشعري الفني هذا عن جنس الوزن مطلقا. ويمكن التمييز تحت هذا الجنس بين نوعين اثنين:

النوع الأول هو الوزن اللغوي الوضعي القائم في البناء الصرفي للمفردات. وأشكال هذا الوزن بعدد أشكالِ المفردات وأشكالِ ما يتركب منها من جمل وعبارات، وأشكالِ ما يتركب من هذه الجمل والعبارات من كلام طويل أو قصير.

وحسب مفهوم هذا النوع من الوزن، يكون قولنا: “هذا كتاب البيان والتبيين لعمرو بن بحر الجاحظ” كلاما موزونا، لأنه يمكننا أن نقطّعه، استنادا إلى أصول الوزن المصطلح عليها، وإلى الأجزاء المركبة من هذه الأصول وما يلحقها من زحافات وعلل، مثلا، كما يلي:

-0-0–0/-0–0/–0-0-0/—0-0/–0-0/-0–0/

مستفـعلن/ فـاعلن/ مفـاعلْـتن/ فعِـلاتن/ فـعولن/ فـاعلن/

أما الأصول فهي ثلاثة: سبب ووتد وفاصلة. “فالسبب نوعان: خفيف، وهو متحرك بعده ساكن& وثقيل، وهو متحركان(& ). والوتد أيضا نوعان/ مجموع، وهو متحركان بعدهما ساكن& ، ومفروق، وهو ساكن بين متحركين(& ). والفاصلة فاصلتان: صغرى، وهي ثلاث متحركات بعدها ساكن& ، وكبرى، وهي أربع متحركات بعدها ساكن& “(العمدة: 1/138). انظر أيضا “كتاب الكافي في العروض القوافي”، للخطيب التبريزي، ص17-18.

أما الأجزاء المركبة، فقد اصطلحوا على حصرها، على أشهر الآراء، في ثمانية أمثلة: “اثنتان خماسيتان، وهما فعولن، فاعلُنْ، وستة سباعية، وهنّ: مفاعيلنْ، فاعلاتنْ، مستفعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفعولاتُ. وما جاء بعد هذا فهو زحاف له أو فرع عليه.”(كتاب الكافي في العروض والقوافي،(م.س)، ص19). قارن بما في “العمدة”: 1/135.

ومثل هذا المثال، في الوزن الصرفي الطبيعي، مثل قول أدونيس:

“ذاهل تحت شاشة النبوءة، مأخوذ بالرّمل- يا رجلْ ! قل لنا آيةً تأتي& “(الآثار الكاملة، المجلد الأول، ص523). وتسكين المنادى (رجل) هو من تصرّفي.

فتقطيعه، حسب أصول الوزن الوضعي اللغوي، يمكن أن يكون كالآتي:

فاعلاتُنْ/مفاعلن/مُفاعلتنْ/فعْلُنْ/فعْلُنْ/مفاعلنْ/فاعلاتنْ/مُفاعلْتُنْ/

قلت: (يمكن)، لأن هناك عدة أشكال محتملة للتقطيع، ترجع في أساس تركيبها إلى الأصول الثلاثة والأجزاء الثمانية المصطلح عليها. فمثلا، يمكن تقطيع الكلام، فقط، بمقياس الوحدات التي تمثلها الأصول الثلاثة(الأسباب والأوتاد والفواصل). وهذا المقياس نفسه يتيح لنا عدة اختيارات لتمييز الوحدات بعضها من بعض. فقول أدونيس “ذاهل تحت شاشة النبوءة” مثلا، يمكن تقطيعه إلى سبع وحدات وفق الأصول الثلاثة المصطلح عليها، وهي: فا(سبب خفيف)، علنْ(وتد مجموع)، فا(سبب خفيف)، علن(وتد مجموع)، مَفَا(وتد مجموع)، علن(وتد مجموع)، مَفَ(سبب ثقيل).

أقتبس من موضوع ( النثر العربي أسباب وأوتاد) :

https://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/nathr-asbab-wa-awtad

ومثال ثالث قول ابن قتيبة: “وللشعر دواع تحث البطيء، وتبعث المتكلّف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب.”(الشعر والشعراء، ص30)

فهذا الكلام أيضا، لا يخرج في وزنه الوضعي الطبيعي عن شكل من الأشكال التي تُعد بعدد إمكانيات ترتيب الأسباب والأوتاد والفواصل المحتملة.

فالوزن إذاً، بهذا المفهوم الوضعي اللغوي، قائم في كل أنواع الكلام، في الشعر وفي غير الشعر. وهذا النوع من الوزن، هذا الوزن المتضمن في بناء اللغة ذاتها، هو الذي جعل العقاد يصف اللغة العربية بأنها لغة شاعرة، “فهي في جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء.

“وهذه الخاصة في اللغة العربية ظاهرة من تركيب حروفها على حدة، إلى تركيب مفرداتها على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيد.”(اللغة الشاعرة، ص11)

النوع الثاني هو الوزن الشعري الفني. وهو أشكال مستقاة من الاحتمالات اللامحدودة التي يتيحها الوزن اللغوي الوضعي.

وقد اختلفت نظريات النقاد في أصل نشأة أوزان الشعر العربي، بين نظرية قائلة بأصالة هذه النشأة، وأخرى قائلة بأن العرب استفادوا، بعض الاستفادة، في وزن أشعارهم، من أمم أخرى.

وممن قالوا بأصالة أوزان الشعر العربي ابن رشيق، حيث زعم أن الكلام كله كان منثورا “فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد، لتهز أنفسها إلى الكرم وتدل أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام. فلما تم لهم وزنه سموه شعرا، لأنهم شعروا به، أي فطنوا؟”(العمدة: 1/20)

وممن قالوا بالتأثر والاقتباس من أمم أخرى الدكتور عبد الله الطيب، في كتاب “المرشد”: 2/750 وما بعدها. اقرأ آراء أخرى متعلقة بهذا الموضوع في “منهاج البلغاء”، لحازم القرطاجني، ص231 وما بعدها، وفي “تاريخ آداب العربية”، لجرجي زيدان: 1/599، وفي كتاب “تاريخ الشعر العربي”، للدكتور نجيب محمد البهبيتي، ص85 وما بعدها، وفي كتاب “اللغة الشاعرة”، للعقاد، ص30 وما بعدها.

والذي أرجحه مع الدكتور البهبيتي هو أن أوزان الشعر العربي قديمة قدم هذا الشعر نفسه، وأنها استغرقت، في تطورها، زمانا طويلا قبل أن تستقيم على هذا النضج والاكتمال الذي عرفناها به في الأشعار التي وصلتنا من العصر الجاهلي.(انظر “تاريخ الشعر العربي”، للدكتور البهبيتي، ص89-90)

وهذا الوزن الفني هو الذي ميّز الشعر العربي عبر مختلف عصوره، وهو موضوع ما اصطلح على تسميته بعلم العروض، أي العلم الذي يدرس أوزان الشعر العربي، في أصولها، وأشكالها، وخصائصها الموسيقية، وما إلى ذلك من الموضوعات التي توسعت في بسطها مصنفات علم العروض والقوافي.

والمشهور أن الخليل بن أحمد الفراهيدي- توفي بين 170 و175 هـ، على اختلاف الروايات- هو أول من تكلم في علم العروض وصنف فيه، وهو أول من استنبط أوزان الشعر العربي وصنفها إلى بحور جعل عدتها خمسة عشر بحرا، موزعة على خمس دوائر، وتعرف بالدوائر الخليلية، وهي: دائرة الطويل والمديد والبسيط، ودائرة الوافر والكامل، ودائرة الهزج والرجز والرمل، ودائرة السريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجثت، ودائرة المتقارب. ومن دائرة المتقارب استنبط الأخفش الأوسط(أبو الحسن سعيد بن مسعدة(ت221هـ) بحرا جديدا سمّاه المتدارك، ويسمّى أيضا بحر الخبب.(راجع تفصيلات هذه الدوائر والبحور في “العمدة”: 1/135 وما بعدها، و”كتاب الكافي في العروض والقوافي”، ص21 وما بعدها، وكتاب “العقد الفريد”: 6/283-289، وكتاب “تيسير علم العروض والقوافي”، للأستاذ محمد بن عبد العزيز الدباغ، ص17-18)

بغض النظر عن الخلفية التاريخية للتسميتين فهناك وزنان متباينان جرى دمجهما في كيان واحد وهذا خطأ كبير شاع. وأدى إلى

معالطات كبيرة منها قول د. خاقاني : "فطن الخليل فغض الطرف عن المتدارك لتلافي القول بالقطع أو التشعيث في الحشو "

https://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/khaqanee/anzatol-khabab

مقالات في ‘موسيقى الشعر’ (3)

وقفة سريعة مع علم العروض

د. عبد العالي مجدوب / Abdelali_majdoub@yahoo.fr

انتهيت، في المقالة الثانية، إلى التمييز بين نوعين اثنين من الوزن: لغوي وضعي وشعري فني؛ فأما الوزن اللغوي فهو موجود في أصل وضع مفردات اللغة لا ينفك عن بنائها الصرفي. فإذا اقتبسنا، مثلا، المثالَ الذي جاء به الجاحظ في “البيان والتبيين”، فإن قول البائع الذي يصيح: “من يشتري باذنجان” هو قول موزون يمكن تقطيعه على صورة “مسْتـََفْعِلُنْ مَفْعُولاَتْ”. وكذلك عنوان هذه المقالة “وقفة سريعة مع علم العروض”، فهو كلام موزون اعتبارا لبناء مفرداته اللغوي، ويمكن اختيارُ تقطيعه، من بين عدة اختيارات، على الشكل التالي: فَاعِلُنْ/مَفَاعِلُنْ/فَعِلُنْ/فَاعِلاَتُنْ.

أما الوزن الشعري، فهو وزن خاص مقارنة بالوزن اللغوي العام؛ فهو صور وأنساق صوتية مختارة من بين صور وأنساق كثيرة يتيحها الوزن اللغوي. وهو وزن فني لأنه مولود من رحم الفنان المبدع، الذي إليه وحده يرجع اختيار توقيع ألحانه على موجات هذا البحر أو ذاك حسب طبيعة تجربته و مكنونات وجدانه. والبحث في هذا الوزن الفني هو موضوع علم العروض.

وها هنا لا بد من التمييز بين وجودين: وجود قبلي ملازم لماهية الشعر نفسه، وهو المتعلق بالوزن الشعري، ووجود صناعي بعدي، مبني على الاستنباط والاجتهاد، وهو المتعلق بالعلم الذي يدرس الوزن الشعري. ومن هذا العلم البعدي الاجتهادي تصنيفُ البحور وتسميتُها، وحصرُ عدد التفعيلات(التفاعيل) وتحديد أشكالها، واختراع الدوائر وتفسير مضامينها.

وبناء على هذا التمييز، فالأوزان التي استنبطها الخليل بن أحمد (ت175هـ) تحتمل أن تُشكل أو تُقرأ وفق نظام صوتي آخر لا ينحصر، بالضرورة، في أشكال التفاعيل الثمانية المصطلح عليها في “علم العروض”، ومن ثم فالدوائر الخليلية الخمسة ببحورها الخمسة عشر يمكن أن تتشكل في صور أخرى غير الصور الاصطلاحية المحفوظة.

وهذه الملاحظة لا تعني، لا من قريب ولا من بعيد، التقليل من أهمية الاختراع الخليلي، وإنما هي ملاحظة من أجل دفع الخلط والالتباس، حتى يكون الفرق واضحا بين الوزن بما هو موسيقى حيّة بحياة خلايا الحركات والسكنات، التي تتشكل منها عناصر المادة الشعرية، المتمثلة في المفردات اللغوية، وبين الوزن بما هو حصر، وتحديد، واختيار، وأسماء، واصطلاحات، وتصنيفات. بل لقد نوّه بهذا الاختراع، من الأدباء والنقاد، من هو رأسٌ في الدعوة إلى نقض العروض الخليلي وتجاوزه. فقد وصف أدونيس استنباط الخليل للأوزان الشعرية وتقعيدها بأنه “عمل إبداعي لا يكشف عن حسّه الموسيقي الأصيل وحسب، وإنما يكشف كذلك عمّا كان يمتلكه من قدرة تحليلية باهرة.”(الشعرية العربية، ص17-18)

فالوزن كما أحسه وتذوقه وعاشه وعبّر عنه الشاعر العربي بطبعه وسليقته هو غير الوزن الذي صنعه العروضي في مختبر عقله، وحدّده وصوّره بذكائه وعلمه واجتهاده.

كلما تقدمت في قراءة الموضوع ألمس الفرق الذي كانت ستحدثه معرفة مضمون ساعة البحور في نظرة أستاذنا إلى سائر الموضوع. وهذه الفقرة مثال على ذلك. وأستاذنا ليس بدعا بين العروضيين العرب القدامى والعاصرين. هل صنعَ الخليل الأوزان أم اكتشفها ؟ ربما كان أستاذنا يقصد بالحديث عن صناعة الوزن ( صياغته التفعيلية )، ويبقى قولي منطبقا على الصياغة كذلك فالصياغة تعبير عن مضمون لا يتغير بتغير الصياغة.

ساعة البحور هي التعبير الرياضي الشامل عن كل من الذائقة العربية في الوزن وعن رؤية الخليل فيه ومنهجه في تناوله.

حالها كخلية النحل التي يعتبر شكل بنائها الهندسي المطرد تعبيرا عن الفطرة التي فطر الله النحل عليها وعن وصف المهندس لها.

وحالها كحال جدول ماندلييف الذي يشكل التمثيل الرياضي بدلالة الوزن والعدد الذريين لسنن الله في خلق العناصر ولمنهج ماندلييف في وصفها.

أما علم العروض بما هو عمل اجتهادي يقوم على الاستقراء والاستنباط، فسيظل، في رأيي، راسخا شامخا ما دام قائما، في نظريته وتطبيقاته، على اصطلاحات علمية لم تزل تنتقل من جيل إلى جيل، عبر مختلف العصور، إلى يومنا هذا، لم تنقضها نظرية وتطبيقات مخالفة جديدة، لها من قوة الاصطلاح العلمي والرسوخ والانتشار ما يفوق قوة النظرية الخليلية وتطبيقاتها.

وقد اختارت العرب، عبر تطور طويل، أوزان أشعارها- بالصورة التي وصلتنا في الشعر الجاهلي- من بين أشكال لا حصر لها من التراكيب الوزنية التي يمكن صياغتها من الوزن الوضعي للمفردات اللغوية، الذي يرجع، في أساسه، إلى الشكل الذي يكون عليه ترتيب الحركات والسكنات.

العرب لم تختر أوزانها وأوزان بحور الشعر لم تتطور وخصائص العناصر لم تتطور وخلية النحل لم تتطور كما أن الورود وعطرها لم تتطور. الجينوم البشري لم يصنعه العلماء ولم يختاروه ولم يطوروه هم اكتشفوه فحسب وتطورت معرفتهم به وقدرتهم على الكتشافه.

الطفل يعرف العروض ويعرف الوزن الصحيح فيتمايل عليه دون تعليم ودون تطور. هو يتعرف من خلال انتظام الصوت على شيء تعرفه فطرته.

http://www.aleqt.com/2011/06/04/article_545380.html

إن القول يتطور الشعر العربي من النثر والسجع يقوم على افتراضات نظرية، وكل ينقل عن الآخر دون تمحيص، وكان هذا مبررا قبل أن تثبت ساعة البحور البناء الرياضي الصارم للذائقة العربية التي تجعلها من الدقة بمنزلة جدول الضرب أو صفات المثلث، لم ولن يتطور أي من هذه. يتطور اكتشاف كل منها أما ذواتها فموجودة. وهنا يصح القول إن وعي العرب على ذائقتهم وتوصيفها قد تطور. بل وربما جاز القول من ناحية نظرية إن تطور وزن الشعر عند العرب مرتبط بثابت هو فطرتهم ومتغير هو تدرج ارتقاء إحساسهم بتلك الذائقة ثم تدرج وعيهم عليها. هذه العملية لا تحتاج طويل وقت إذا ما قيست بعملية تطوير العرب لشعرهم هكذا دون اهتداء على الفطرة بالبرنامج الرياضي الذي أودعه الله في وجدانهم.

وقد لا أبالغ إذا قلت إن إدراك منهج الخليل وفهمه - على بساطته - سيغير آراء كثيرة تتعلق بالعروض العربي وربما سواه.

فلماذا اختارت العرب هذه الأشكال دون غيرها من الأشكال الأخرى؟ وللتذكير، فإن هذه الأشكال ليست محصورة فقط في أوزان البحور الستة عشر بأجزائها التامة، بل هناك أيضا أشكال مجزوءات هذه البحور ومشطوراتها.

لست أرى في استقرار العرب على هذه الأوزان التي وصلتنا في أشعارها أية غرابة، لأنني أرى أن من الطبيعي، بعد زمان طويل جدا من التطور والتدرج والتجارب، أن تستقيم السليقة العربية على أشكال موسيقية ناضجة، تستجيب أولا لطبيعة الفطرة العربية، وطبيعة الجغرافيا، والمناخ، والحياة البدوية عامة، وتستجيب ثانيا، لقواعد الذوق الفني الإنساني المبنية على التوازن والتناسب والانسجام والتناسق الجميل.

“& فكم استلزم الأمر من زمن ومن اتساع آفاق النفس، حتى وصل الشعر العربي إلى تحقيق هذا العدد الضخم من الأوزان لنفسه؟

“كل هذا نذير بأنه عريق جدا، لا يقف عمره عند مائتي عام، ولا ثلاثمائة، إنما هو موغل في الزمان إيغالا& “(تاريخ الشعر العربي، للدكتور نجيب محمد البهبيتي، ص89.)

لا يستلزم الوعي على الفطرة والتصرف طبقا لها طويل زمان. إن الانتظام الرياضي الهندسي لوزن الشعر العربي يتطلب إعادة النظر في كل ما تقدم

وهو ما يفتح الباب لتأمل أن يكون الشعر العربي قديما قدم العرب كما أن خلية النحل قديمة قدم النحل وكما أن الأوزان والأعداد الذرية للعناصر قديمة قدم العناصر.

وعندي أن هذا يحمل من المنطق لتفسير غياب شعر عربي تجريبي تكثر فيه الأخطاء أكثر مما يحمله القول بالسجع أصلا للشعر. اللغة أصل النثر والسجع والشعر.

هذا، مع استحضار الدور الفاعل والحاسم، في هذا التطور الطويل، لطبيعة اللغة العربية ومميزاتها الصوتية وخصائصها الموسيقية الغنائية.

ولهذا، لا نستغرب أن نجد من النقاد القدامى والمحدثين في زماننا، من يذهب إلى أن الأوزان التي وصلتنا قد جمعت من المقومات الصوتية أخفَّها وأحسنها وأجملها، ومن الخصائص الموسيقية أفضلَها وأنسبها وأحلاها.

يقول حازم القرطاجني في هذا المعنى: “وضروب التركيبات كثيرة جدا. وإنما استعملت العرب من جميع ذلك ما خفّ وتناسب. وليس يوجد أصلا في ضروب التركيبات والوضع الذي للحركات والسكنات والأجزاء المؤتلفة من ذلك أفضلُ مما وضعته العرب من الأوزان.”(منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص232.)

هذا صحيح ونظيره القول إن الدائرة لها خصوصية تتميز بها عن سائر الأشكال الهندسية

ويتساءل الدكتور البهبيتي، في أثناء مناقشته هذا الموضوع، إن كانت الأوزان العربية قد استنفدت كل مزايا الإيقاع الشعري الجميل، فلم تترك للمتأخرين من الشعراء، في العصر الإسلامي والأموي والعباسي، أية إمكانية موضوعية، ولا أي سبب فني، لاختراع أوزان جديدة، أم أن المسألة، ببساطة، هي مسألة ضعف إبداعي في هؤلاء الشعراء أنفسهم حال بينهم وبين الإختراع وإضافة الجديد؟

ويذهب الدكتور البهبيتي إلى أن الأمر الأول هو الأرجح.(تاريخ الشعر العربي، ص89.)

ليس الأرجح فحسب بل هو اليقيني الذي تكشفه ساعة البحور، فليس فيها مكان لبحر جديد كما ليس في جدول الضرب مكان للتجديد.

ولست أفهم من تساؤل الدكتور البهبيتي أنه يقصد أن ملكات الشعراء الذين عاشوا بعد العصر الجاهلي، وخاصة في العصر العباسي، كانت عقيمة بمعنى العقم الذي يمتنع معه أي نوع من أنواع التوليد والتجديد والإحداث. وذلك لأن مصادر عديدة نقلت لنا أخبارا وأمثلة شعرية تفيد وتؤكد أن الشعراء، بعد العصر الجاهلي، قد استحدثوا أوزانا تخالف، في تشكيلها وترتيب أجزائها، أوزان الشعر العربي التي استنبطها الخليل. بل وجدنا من نقاد الشعر وعلماء اللغة والعروض، في العصور المتأخرة، من راجع اجتهادات الخليل العروضية مستدركا عليها بالزيادة والنقصان. من هؤلاء، فضلا عن الأخفش الأوسط، إسماعيلُ بن حماد الجوهري اللغوي المشهور(توفي ما بين عامي 393 و400هـ، على اختلاف الروايات). فقد أسقط، في استدراكاته، أربعة من بحور الخليل، وهي: السريع، والمنسرح، والمقتضب، والمجثت، وعلل ذلك بِـ”أن الخليل إنما أراد بكثرة الألقاب الشرحَ والتقريبَ، قال: وإلا، فالسريع هو من البسيط، والمنسرح والمقتضب من الرجز، والمجثت من الخفيف.”(العمدة: 1/135-137)

وأوزان البحور الخليلية نفسها منها ما يرى بعض النقاد أنه مفقود في شعر العرب، وهو ما يعني-إن ثبت ذلك- أن الخليل لم يستنبطه من الشعر العربي القديم، وإنما استفاده من شعراء عاشوا بعد العصر الجاهلي.

فأوزان المضارع، والمقتضب، والمجثت، “قلّ ما توجد في أشعار المتقدمين”(الفصول والغايات، لأبي العلاء المعري، ص132).

فوزن المضارع، في الأصل، (مفاعيلُ فاعلاتنْ مفاعيلنْ) مرتين، لكنه لم يستعمل إلا مجزوءا. وأصل وزن المقتضب (مفعولاتُ مستفعلنْ مستفعلنْ) مرتين، لكنه، هوأيضا، لم يرد إلا مجزوءا. وأصل وزن المجثث (مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن) مرتين، لكنه استعمل مجزوءا.

“فأما المضارع فالبيت الذي وضعه له الخليل:

وإن تدن منه شبرا ** يقرّبك منه باعـا

“وهو مفقود في شعر العرب& “(الفصول والغايات، لأبي العلاء المعري، ص132). “ولم يجئ فيه شعر معروف. وقد قال الخليل: وأجازوه.”(كتاب الكافي في العروض والقوافي، للخطيب التبريزي، ص117). وقد أنكر الأخفش ورود هذا الوزن في شعر الجاهليين، ونسب وضعه إلى المحدثين.(تيسير علم العروض والقوافي، ص143). ويذهب حازم القرطاجني، في رفضه لهذا البحر، إلى أنه ليس هناك شيء من الاختلاق أحق بالتكذيب والردّ من هذا البحر، “لأن طباع العرب كانت أفضل من أن يكون هذا الوزن من نتاجها.”(منهاج البلغاء، ص243)

“وأما المقتضب، فالبيت الذي وضعه الخليل فيه:

أعرضت فَلاحَ لنا ** عارضان من برد

“وهو مفقود في شعر العرب& “(الفصول والغايات، لأبي العلاء المعري، ص132). انظر أيضا، “تيسير علم العروض والقوافي”، ص149-151.

سواء تم النظم على بعض هذه المجتثات ( الاجتثاث = إسقاط من أول البحر ) بعد العصر الجاهلي أو وضعها الخليل فإنها تأتي ضمن دوائره المتواشجة بمنطق رياضي قطعي في ساعة البحور فكما أن الخفيف والرمل متواشجان فكذلك مجزوءاهما ومجتثاهما:

وهذه شهادة لساعة البحور ومنهجية الخليل لا ضدها.

وقد حفظت لنا المصادر أشعارا كثيرة لم يثبت لأوزانها أصل في العروض الخليلي، أي فيما استنبطه الخليل من أشعار العرب، كقصيدة عبيد بن الأبرص: “أقفر من أهله ملحوب” المشهورة، فَـ”وزنها مختلف وليست موافقة لمذهب الخليل في العروض”(نفسه، ص131). وكذلك “قصيدة عديّ بن زيد العبادي:

قد حان أن تصحو لو تقصرْ ** وقد أتى لما عهدت عُصُــرْ”(نفسه، ص131-132)

وقصيدة المرقش الأكبر:

هل بالديار أن تجيب صممْ ** لو أن حيّا ناطقا كلّــمْ”

في رواية “المفضليات”: “لو كان رسم ناطقا كلّم”.(المفضلية رقم(54)، ص237)

فقد علق أبو هلال العسكري على اختيار الأصمعي لقصيدة المرقش هاته بقوله: “ولا أعرف على أي وجه صرف اختياره إليها، وما هي بمستقيمة الوزن& “(كتاب الصناعتين، ص3)

الحكم على هذه القصائد على هذا النحو تنقصه الدقة، وكمثال على ذلك معلقة عبيد بن الأبرص:

https://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/obaid-bin-alabras

وتخبرنا مصادر كثيرة أيضا عن بعض الشعراء الذين كانوا يقولون الشعر على أوزان غير الأوزان العربية المشهورة. ولعل أبا العتاهية أشهر هؤلاء الشعراء. فقد كانت “له أوزان طريفة قالها مما لم يتقدمه الأوائل فيها.”(الأغاني:ج4/ص2) فقد “كان أحد المطبوعين، وممن يكاد يكون كلامه كله شعرا(& )وكان لسرعته وسهولة الشعر عليه ربّما قال شعرا موزونا يخرج عن أعاريض الشعر وأوزان العرب.”(الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص534)

وإلى أبي العتاهية يُعزى استحداث وزن “مدقّ القصّار”، وهو: (فاعلاتن فاعلن) مرتين. (يراجع “علم العروض ومحاولات التجديد”،(م.س)، ص38،39). فقد رُوي أنه “قعد يوما عند قصّار فسمع صوت المِدَقَّة فحكى ذلك في ألفاظ شعره، وهو عدة أبيات فيها:

للمنون دائرا ** تٌ يدرن صرفها

هنّ ينتقيننـا ** واحدا فواحـدا”(نفسه، ص534)

ومن هؤلاء الشعراء الذين استحدثوا أوزانا خارج العروض الخليلي (رزين العروضي)(ت247هـ). فقد ذكروا أنه كان نحا نحْوَ عبد الله بن هارون في قول أوزان “غريبة من العروض”، “فأتى فيه ببدائع جمّة.”(معجم الأدباء، لياقوت الحموي: 11/138)

و”يكاد يجمع أهل العروض على أن للمولّدين أوزانا مخترعة لم يسبقوا إليها، وقد سمّيت بالبحور المهملة.”(موسيقى الشعر، للدكتور إبراهيم أنيس، ص230.)

أنقل من الرابط: https://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/tafkeer-aroody

إن كا ن لا بد من وصف لهذه الأوزان يستعمل فيه لفظ البحور فهو ( البحور الوهمية ) وليست ( المهملة )

ب - نسبة ما سمي بالبحور المهملة إلى المولدين ويردد ذلك كثيرون، كما جاء في ( أهدى سبيل ) :" فكل ما يخرج عن الأوزان الستة عشر أو الخمسة عشر

فليس بشعر عربي، وما يصاغ على غير هذه الأوزان فهو عمل المولدين .....وإنما جنحوا إلى تلك الأوزان لأن أذواقهم تربت على إلفها واعتادت التأثر

بها......لذلك راينا أن المولدين لم يطيقوا أن يلتزموا تلك الأوزان الموزونة من العرب فأحدثوا أوزانا أخرى منها ستة استنبطوها من عكس دوائر البحور"

خلط في خلط في خلط..

1- " أذواق الموليدن تربت على البحور المهملة " سبحان الله ! الخليل في دوائرة قسمان قسم للعرب وقسم للمولدين.

2- "هم استنبطوها من عكس دوائر الخليل" ، يعني لم يأْلفوها كمال قال بل استنبطوها، ويعني أن الخليل لم يعرفها

3- من شعراء المولدين المعروفين في تاريخ الشعر العربي في العصر الباسي أبو نواس وبشار بن برد وابو تمام

ومسلم بن الوليد فهل ضاقت بحور الشعر العربي بهؤلاء فلجؤوا إلى البحور التي ألفوها واستبطوها بعكس

دوائر الخليل ؟

4- وعلى فرض أن هناك سوى هؤلاء ينطبق عليهم هذا الوصف فما هي أسماؤهم ؟

5 - واين الشعر الذي كتبوه عليها ؟ لا شيء سوى ما تتناوله كل كتب العروض من البيت ذاته أو البيتين ذاتهما على كل بحر والتصنيع واضح في تفصيل شواهد على هذه الأوزان.

إن القول بأن هذه ( البحور المهملة ) - والأحرى أن تسمى أوزانا لا بحورا - ناتجة عن عكس بحور الخليل أو مشتقة من دوائره شيء يوصّف واقع الدوائر، ولكن القول بأن هذه البحور المعكوسة كانت متنفسا للمولدين الذين ضاقت بهم بحور الخليل أمر لا دليل عليه. والأهم من هذا كيف يتم تداول هذا الأمر قرونا دون تمحيصه ؟ ثقافة الحفظ التي تلبست العروض – لسوء حظه – هي المسؤولة عن ذلك. فإن الاعتناء بملكة الحفظ يتم على الأغلب على حساب التفكير. فالعيب ليس في الحفظ بل في منهج الحفظ على حساب التفكير. وذلك نظير القول " ليس العيب في التفاعيل بل في أخذها بمعزل عن نهج الخليل ". الحفظ والتفاعيل متداخلان وهما – على فائدتهما في حفظ المعلومة – يركزان على تجميع المعلومات وحفظها. وليس فيهما من دافع يدفع القارئ إلى الربط والتفكير، الأمر الذي يؤدي إلى تغييب ثقافة التفكير. ومالم يكن لدى القارئ حافز ذاتي على التفكير فإن تركيزه على الحفظ سيجعله بمثابة الأرشيف الذي يحوي المعلومات فيستدعيها عند الحاجة لها ويعتبر أن تقدمه في هذا السبيل متناسب مع كفاءة أدائه في التذكر والاستدعاء فيكاد في ذلك يساوي بين الأساس والفرع وبين الشائع والشاذ. إن القول دون دليل بأن بحور الخليل ضاقت بالمولدين فلجأوا إلى (البحور المعكوسة) ليجدوا فيها متنفسا كالقول إن المولدين ضاقت بهنم الألفاظ العربية فاختاروا من ( العين الشامل ) ألفاظا جديدة بعضها مثل ( ببص : وهنا يضعون لها تعريفا ) ناتج من عكس حروف ( صبب = صبّ!) . وهكذا سيخرج علينا ( المبدعون ) باختراع ألفاظ جديدة ربما يتواضعون بنسبتها إلى (العين العام) وينتهي الأمر بعد حين بفوضى لغوية بل لغة تنكر العربيةَ وتنكرها العربيةُ. مثل هذا وأكثر حدث للأسف في العروض على أيدي بعض الشعراء والعروضيين، ومن يريد أدلة فالعديد منها في موضوع [ بحور جديدة !]

وقد كانت الحاجة إلى الغناء، أساسا، وراء استحداث الأوزان القصار التي ولّدها الشعراء المولدون من الأوزان العربية الطوال. وكذلك كانت هذه الحاجة وراء ما ولّدوه من البحور المهملة في الدوائر الخليلية، كالبحر المستطيل، وهو مقلوب الطويل، ووزنه (فاعلن مفاعيلن) أربع مرات، والبحر الممتد، وهو مقلوب المديد، ووزنه (فاعلن فاعلاتن) أربع مرات، والبحر المتئد، وهو مقلوب المجثت، ووزنه (فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن) مرتين، والبحر المنسرد، ووزنه (مفاعيلن مفاعيلن فاعلاتن) مرتين، والبحر المطرد، وهو مقلوب المنسرد: (فاعلاتن مفاعيلن مفاعيلن) مرتين، وغيرها من الأوزان التي لم تستعملها العرب في أشعارها.

ويرجّح الدكتور أنيس أن هذه البحور المهملة لم يخترعها الشعراء المولدون، وإنما اخترعها العروضيون، “وذلك لأنا- يقول الدكتور أنيس- نرى أمثلتها وشواهدها تتكرر هي بعينها في كتبهم غير منسوبة لشاعر معروف، وتبدو عليها سمة من الصنعة العروضية.”(نفسه، ص231)

إضافة إلى هذا، فقد سجلت لنا المصادر تشكيلات أوزان أخرى مستحدثة، تمتاز بإيقاعات خفيفة وسريعة استدعتها التغيرات الطارئة على البيئة الاجتماعية الحضارية، وخاصة في جانبها الغنائي المتعلق باللهو والترفيه، أو السماع الديني القائم على الإنشاد الجماعي في الذكر والأمداح. يُراجع، في “أوزان المولّدين”، الفصل السابع من كتاب “موسيقى الشعر، للدكتور إبراهيم أنيس، ص230-272، وكتاب “هذا الشعر الحديث”، للدكتور عمر فرّوخ، ص61-63. وفي موضوع “الأوزان القصار”، كتاب “المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها”، الجزء الأول، ص78-84.

وقد ظهرت هذه التشكيلات الوزنية في فنون غنائية مستحدثة، كفنّ “المواليا”، و”كان وكان”، و”القوما”، و”الدوبيت”، و”السلسلة”.

أما(المواليا)، فيظهر أنه “هو نفس النوع المعروف في الشعر العامي بالموال، لأن أمثلته قد جاءت مزيجا بين ألفاظ معربة وأخرى غير معربة.”(موسيقى الشعر، ص232). وأما (كان وكان)، فقد زعموا “أن هذا الوزن قد شاع بين البغداديين في عصور متأخرة بدأ بعض الناظمين فيها يتحللون من بعض قواعد الإعراب. وقد ارتقى هذا الوزن قليلا حين جاء الإمام ابن الجوزي والواعظ شمس الدين، فنظما منه الحكم والمواعظ في القرن السادس والسابع الهجري.”(نفسه، ص234). وأما وزن(القوما)، فيرجح الدكتور إبراهيم أنيس أنه ” لا يعدو أن يكون مجزوء الرجز تغيرت فيه (مستفعلن) الثانية إلى (مستفعلْ)، مثل (محمول)، ثم سكن آخره لينسجم هذا مع ما شاع في هذه العصور من التخلص من حركات الإعراب.”( نفسه، ص236). وأما (الدوبيت)، فـ”يكاد الرواة يجمعون على أنه فارسي& استعاره بعض الناظمين باللغة العربية الفصيحة في النادر من الأحيان& وقد وصفه العروضيون بأنه: (فعْلنْ متفاعلن فعولن فَعِلُن)& “( نفسه، ص238). وأما (السلسلة)، فمن أمثلته المشهورة:

السحر بعينيك ما تحرك أو جال ** إلا ورماني من الغرام بأوجال

يا قامة غصن نشا بروضة إحسان ** أيان هفت نسمة الدلال به مال

“& وأجدر بوزن “السلسلة” أن يضم إلى تلك البحور المهملة التي حدثونا عنها.”(نفسه، ص240،241)

ولعل أشهر هذه الفنون المستحدثة جميعا هو فن “الموشح”، وهو “كلام منظوم على وزن مخصوص، وهو يتألف في الأكثر من ستة أقفال وخمسة أبيات، ويقال له التام، وفي الأقل من خمسة أقفال وخمسة أبيات، ويقال له الأقرع(& ) والأقفال هي أجزاء مؤلفة يلزم أن يكون كل قفل منها متفقا مع بقيتها في وزنها وقوافيها وعدد أجزائها.

“والأبيات هي أجزاء مؤلفة مفردة أو مركبة يلزم في كل بيت منها أن يكون متفقا مع بقية أبيات الموشح في وزنها وعدد أجزائها لا في قوافيها(& )”(دار الطراز في عمل الموشحات، لابن سناء الملك، ص32،33)

“والموشحات تنقسم قسمين: الأول ما جاء على أوزان العرب، والثاني ما لا وزن له فيها، ولا إلمام له بها.”(نفسه، ص44)

(تراجع تفصيلات أخرى عن فن “الموشح” وأوزانه في المصدر السابق(دار الطراز)، وفي “مقدمة ابن خلدون”، ص491 وما بعدها، وفي كتاب “موسيقى الشعر”، للدكتور إبراهيم أنيس، ص241-257، وكتاب “في أصول التوشيح”، للدكتور سيد غازي).

وقد درس المستشرق مارتن هارتمانMartin Hartmann “تفاعيل الموشحات فوجد أنه يتركب منها “أوزان” تبلغ مائة وستة وأربعين عدّا. ثم وجد أنه يمكن أن يتفرع من هذه الأوزان أوزان أخرى تبلغ بعدد الأوزان إلى مائتين وثلاثة وثلاثين(& ) وربما كان هناك موشحات قد ضاعت أو لم يستطع هارتمان أن يطلع عليها، وهي- وهذا ممكن- على غير هذه الأوزان أيضا.”( هذا الشعر الحديث، للدكتور عمر فرّوخ، ص64-65).

اتفق مع أستاذنا على أن الشعر العربي له من الخصائص والمزايا ما يقوم شهادة على روعته وتقدمه على ما سواه من الأشكال الشعرية، إلا أني لا أرى رأي أستاذي في نفي صفة الشعر كلية عن شعر التفعيلة. رأيه في (شعر التفعيلة) أراه ينطبق تماما على ما يسمونه ( شعر النثر - قصيدة النثر)، المساواة بين شعر التفعيلة وما يسمى (شعر النثر) فيها قدر كبير من الذاتية. عرف العرب (البند) وهو أقرب ما يكون من شعر التفعيلة شكلا،ولم تنشب معركة لأن البنديين لم يتحدوا الشعر. وحتى (قصيدة النثر) لا تثير معركة لمجرد وجودها إلا بمقدار ما يثيره اسمها المتناقض ذاتيا من تضمنه هدما لركني الشعر من وزن وقافية وما يشنه بعض روادها من هجوم على الشعر من جهة وبعضهم من هجوم حداثي على ثوابت الأمةحتى خارج نطاق الشعر. ولو أنهم أعطوها اسما آخر كـ ( النثر الشاعري) مثلا وما تعرضوا للشعر ولا هاجموا الثوابت لانتفى أي احتمال لنشوب أية معركة مع أية جهة.

في مقالة الأسبوع القادم ، إن شاء الله، سأعرض أمثلة من أصوات نقدية انقلابية من أهل دار “الشعر الحديث”.

ورمضان مبارك كريم؛ نسأل الله، تعالى، أن يتقبل من جميع المسلمين، وأن ينصر جنده من القائمين والمرابطين الصابرين، وأن يخزي إبليس وأتباعه من الإنس والجن أجمعين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مقالات في ‘موسيقى الشعر’ (7)

انقلاب من أهل الدار

د. عبد العالي مجدوب / majdoub_Abdelali@yahoo.fr

لم يمر زمان طويل على “شعر التفعيلة”، الذي علق عليه المجدّدون الأوائل آمالا واسعة، للانعتاق مما زُعم أنه قيود في الأوزان التقليدية- لم يمر عليه زمان طويل في ميدان التجربة والاختبار حتى عادت رائدة مسيرته ومخترعة عروضه تنحى باللائمة على الشعراء المجددين، وخاصة الناشئين منهم، الذين انطلقوا “يخطئون أفظع الأخطاء وهم يحسبون أنهم يأتون بأعظم التجديد”(قضايا الشعر المعاصر، ص176) ، وتتهمهم بأنهم ضعيفو السماع “بحيث يرتكبون أخطاء عروضية مشوّهة وهم لا يشعرون”(نفسه، ص172)، وتعترف، فيما يشبه الجزم، “بأن ثمانين بالمائة من القصائد الحرة تحتوي على أغلاط عروضية من صنف لا يمكن السكوت عنه.”(نفسه) وتوضح ذلك قائلة: “إننا قد نجد خطأ عروضيا في قصيدة واحدة من عشر في أسلوب الشطرين، في حين نجده في ثمان من عشر في الأوزان الحرة. وهذه نسبة غير هينة تجعل الغلط في الشعر الحر ظاهرة متمكنة ينبغي أن تخص بالملاحظة.”(نفسه، ص174).

وفي رأي نازك الملائكة أن “السبب الأكبر في هذه الحقيقة[حقيقة فشو الأخطاء العروضية في الشعر الحر] هو أن الشعر الحر أصعب من شعر الشطرين”(نفسه). وما أغرب هذا التعليل من نازك الملائكة ! فلماذا إذن العدول عن الأسهل إلى الأصعب؟؟

ولم يفت الأديبة الناقدة، في هذه المراجعة، أن تحمل النقاد، أيضا، قسطا من المسؤولية في وقوع كثير من التجارب الجديدة في الأخطاء العروضية الفاحشة. فأكثر اللوم، عندها، “يقع على الشعراء، ذلك لأن الناقد الذي يسمّي نفسه ناقدا ثم يجهل أن الشعر الحر موزون جارٍ على العروض العربي تمام الجريان(& ) يحكم على نفسه بأنه ليس ناقدا، وإنما هو واحد من أولئك البسطاء الذين لا يتورعون عن أن يدلوا بآرائهم في كل موضوع.”(نفسه، ص175)

وبسبب هؤلاء النقاد الذين “رفضوا أن يقوموا بواجبهم في نقد الشعر وغربلته”(نفسه)، بدل مهاجمته والسخرية ممن ينظمه، فقد الشاعر الناشئ ثقته بالناقد، “وانتهى الأمر إلى أن يصبح هذا الشاعر جامحا، يخرج على العروض، وعلى الموسيقى، وعلى الذوق باسم “الحرية”.”(نفسه، ص176).

للمستزيد من نقد نازك لِـ”إهمال الشعراء”، وحديثها عن “أصناف الأخطاء العروضية”، يمكن الرجوع إلى كتابها (من ص162إلىص192).

في كل شكل أدبي تفاوت في المستويات، ويتميز الشعر [ العمودي] ب

1- وضوح المرجعية وتأصلها وثباتها 2- قواعد واضحة 3- استشعار الوجدان والسليقة له وزنا وطول شطر. 4- تطلبا لحد أدنى من المستوى اللغوي

وهذه تجعل الحكم على شكله الشعري واضحا، بل وربما لعبت دورا في الحد من كثرة تدني مستواه

وبالمقارنة فإن شعر التفعيلة يعاني من:

1- اضطراب المرجعية 2 - الاختلاف في بعض قواعده 3- عدم وجود خلفية في الذائقة العربية تجاه طول السطر فيه 4- استسهاله من قبل بعض من يفتقرون إلى المستوى الأدبي اللائق

وهذه تجعل الحكم على شكله الشعري رجراجا، بل وربما لعبت دورا في الإكثار من تدني مستواه.

وهذه

وقد أسفّت بعض التجارب، فذهبت بعيدا في إهمال بعض أساسيات أصول الوزن، وقواعد الذوق الموسيقي السليم، حيث نجد أصحابها يخطئون، فيجوّزون، مثلا، توالي خمس حركات في الخبب أو المتدارك-وأجزاؤه “فاعلن” ثماني مرات، “وهو من أسهل الأوزان، حتى ليكاد يكون في استطاعة المرء أن يتحدث به حديثه العادي”(هذا الشعر الحديث، للدكتور أحمد سليمان الأحمد، ص168)، كقول نزار قباني:

“من أدب بلادي، من أدبي”(نفسه، ص51).

وقوله من ديوانه “كتاب الحب”:

“لا أطلب أبدا من ربّي إلا شيئين&

“وشعوري نحوك يتخطّى صوتي.. يتخطّى حنجرتي.”(نفسه، هامش رقم79)

والمعروف في قواعد وزن الشعر العربي أن الحركات قصاراها أربع فساكن، “بل إن النثر نفسه قد يتحاشى خمس حركات. فكيف هذا الخطأ الفظيع الذي لا تحس به آذان هؤلاء الشعراء، وبعضهم غني الحصيلة من القراءات العربية؟”(نفسه)

“ومثل ذلك قول شوقي بغدادي:

“من يحمل لقب الشاعر بعدك في المحشر

****

ورسول العفة بازار رخو.

“فهذا نثر محض، وعبارة عن نوع من السجع الذي لا يعتد به.”(نفسه)

“وأخطأ يسري خميس(القاهرة)، حين قال(مجلة “الاداب”، العدد السادس، حزيران 1971، بيروت):

“كالطوب الأخضر

“لا بد أن نصهر، نصهر

“أن نحترق ليال ليال.”(هذا الشعر الحديث، للدكتور أحمد سليمان الأحمد، ص171، والهامش رقم(80) من الصفحة نفسها).

والخطأ العروضي واضح في الجملة الأخيرة، حيث “استخدم خمس حركات قبل أن يتوقف، كما أن هناك خطأ لغويا& إذ كان عليه أن يقول “ليالي ليالي”. وليس غريبا أن لا يخطئ مثل هذا الشاعر الضعيف، ولكن الغريب أن لا يجد من يقوم له لسانه.”(نفسه) يُراجع المزيد من الأمثلة على الأخطاء العروضية في شعر التفعيلة في هذا المرجع، ص166-176، وفي كتاب نازك الملائكة “قضايا الشعر المعاصر”، في الفصل الثاني من الباب الثالث، الذي خصّصته للحديث عن “أصناف الأخطاء العروضية”، ص177-192.

اعتبار الخبب من المتدارك خطأ شائع تنبني عليه استنتاجات خاطئة. كبعض هذه التي ذكرها أستاذنا في الفقرة أعلاه. فالخبب لا يمكن أن يكون من المتدارك إلا على جثة ( عروض الخليل) فكيف يتم القطع في الحشو لتتحول فاعلن 2 3 إلى فعلن 2 2. الخبب إيقاع قائم بذاته. قد يتجاور فيه من الأسباب الخفيفة ما يفوق الثلاثة التي هي الحد الأعلى في بحور الشعر وقد يتجاور فيه من المتحركات ما يفوق الأربعة وهي الحد الأعلى في بحور الشعر، والاعتدال في كليهما أنسب للوزن وفي الكثرة ما يثقل ولا يكسر، كما أنه يخالف بحور الشعر في خلوه من الوتد ومن حذف ساكن السبب فهو مكون من أسباب خفيفة وثقيلة متكافئة. ومن شاء المزيد فليرجع إلى ردي على د. الخاقاني بهذا الصدد :https://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/khaqanee/anzatol-khabab

وبسبب ما أبدته نازك الملائكة من تحفظات، وما سجلته من انتقادات على تجارب الشعراء الجدد، وبسبب ما أضافته من قواعد وحدود احترازية، بعد مراجعتها للقواعد العروضية التي وضعتها للشعر الحر، على ضوء ما أبانت عنه التجربة في الميدان طيلة اثنتي عشرة سنة(قضايا الشعر المعاصر، ص5، من مقدمة الطبعة الخامسة ) – بسبب كل ذلك، انقلب عليها من كانوا من أوائل من ساروا في موكب اختراعها العروضي، رافعين رايات التشجيع والتأييد والتقريظ، وجعلوا يلومونها ويأخذون عليها أنها ضيقت على الشعراء بقيودها الجديدة التي تفوق، في ثقلها-حسب زعمهم- قيود العروض الخليلي، وأنها تخلت عن شعاراتها التجديدية التحررية التي بدأت بها مسيرة دعوتها للشعر الحر.

من يهدم مرجعية تم الإجماع عليها ويحاول تثبيت مرجعية جديدة سيجد نفسه متناقضا. فكيف يجمع بين تجاوز ما استقر ثم الدعوة إلى التزام قواعد ثابتة ينشئها الجديد المتمرد. من الطبيعي أن يولد كسر المرجعية الأولى مرجعيات متدحرجة نحو اللامرجعية وهذا ما حصل وصولا إلى ما أسموه (شعر/ قصيدة النثر )

يُراجعُ، مثلا، النقد الذي وجهه إليها الدكتور محمد النويهي في كتاب “قضية الشعر الجديد”، في الفصل الثاني من الباب الرابع، بعنوان “نازك الملائكة والشعر الجديد”، ص249-309. وأيضا ما كتبه يوسف الخال الشاعر الحداثي، في نقد عنيف لكتابها، بعد ظهوره في سنة 1962، في مجلة “شعر”، العدد24، السنة6، خريف1962، ص138-152.

لم تكن لنازك الملائكة دوافع تتعدى دائرة الأدب في تنظيرها لشعر التفعيلة. لكن الأمر مختلف بالنسبة للحداثيين الذين لا يخفون قصدهم هدم سائر الثوابت الأدبية والعقدية، وكم تم استغلال حسن النية لما وراء ذلك في غير الشعر والأدب. وهناك من يقول إن صحيفتي شعر وحوار كانتا تمولان من جهات أجنبية لتكريس هذا التوجه.

http://www.aljarida.com/ext/articles/print/1461358379551523900/

http://www.diwanalarab.com/spip.php?article12749

ومهما تكن حدود الموضوعية والإنصاف في نقد كلا الفريقين، العموديين التراثيين والتجديديين المتحررين، لعمل نازك الملائكة، فإن الذي ننتهي إليه، بعد هذه الإطلالة المركزة على دعوة الشعر الحر، هو أن نازك الملائكة ومن سار على دعوتها من الأنصار والمتعاطفين، نقادا وأدباء، ظلوا يؤكدون “أن الشعر الحر ظاهرة عروضية قبل كل شيء”(قضايا الشعر المعاصر، لنازك الملائكة، ص69)، وأنه، في بنائه الموسيقي، “جارٍ على قواعد العروض العربي، ملتزم لها كل الالتزام& “(نفسه، ص146)، وأن الشعر شعر، وأن النثر نثر، وأن الوزن أساس في تمييز الشعر من النثر.

نازك الملائكة وبدعة “قصيدة النثر” لقد ظلت نازك الملائكة، ومعها من اختار طريقها في نقد الشعر، تندد بمذهب أولئك “المتحمسين” “الخياليين”، الداعين إلى بدعة “قصيدة النثر”ـ وصفُ “بدعة” هو من نازك الملائكة في “قضايا الشعر المعاصر”، ص213ـ وتسألهم في تحدّ واستغراب: “لماذا إذن ميّزت لغات العالم كلها بين الشعر والنثر؟ وما الفرق بين الشعر والنثر إن لم يكن الوزن هو العنصر المميز؟”(نفسه، ص219).

وتستطرد الناقدة الأديبة في مناقشة بدعة “قصيدة النثر” قائلة: “& فإذا نحن سمينا كل كلام شعرا بمعزل عن فكرة الوزن، فسوف نكون كمن يسمي الحياة كلها نهارا سواء أكان فيها ضياء أم لا. وإنه لواضح أنها تسمية مفتعلة. إن الليل ليل، والنثر نثر. وواجبنا نحو اللغة والذهن الإنساني أن نسميهما ليلا ونثرا دون أن ننتحل لهما تسميات مضللة لا تشخص شيئا. وما الذي نستفيده من تسمية النثر شعرا، والليل نهارا، يا ترى؟ أو ليس تشخيص الفروق أحسن من ذلك وأجدى؟”(نفسه، ص220)

أدعو القارئ الكريم إلى مراجعة استنكار نازك الملائكة لبدعة “قصيدة النثر”، ومناقشتها لدعاوى أنصارها في الفصل الثاني من الباب الرابع، في “قضايا الشعر المعاصر”، ص213-227.

ومنه أنقل ( ص221) :" فلعلنا نستطيع أن نلاحظ كلنا أن تسميتنا للنثر "شعرًا" هي في حقيقة الأمر، كذبة لها كل ما للكذب من زيف وشناعة"

وإذا كنت لا أجادل في قوة الموقف الذي وقفته نازك الملائكة ومن تابعها على نهجها من النقاد والأدباء، في وجه دعاة التحرر من الأوزان، باسم الحداثة والتجديد، وأنوه بعمق المناقشة التي جرت عليها في دحض مقولات بدعة “الشعر المنثور”(قصيدة النثر)، فإنني، مع ذلك، أزعم أن الدعوة إلى إسقاط خاصية التساوي العددي الكمي في بناء الوزن الشعري، التي كانت نازك الملائكة في مقدمة روّادها، تنظيرا وتطبيقا، قد شكلت، بصورة من الصور، المهاد التاريخي الوطيء الذي تسللت منه التيارات الحداثية ذات النزعة الإديولوجية الهدمية الرفضية، إلى قلب ديوان العرب ، فأحالت صنعة الشعر فعلا مائعا يتعاطاه كل من هبّ ودبّ، حتى اختلطت الحدود والمفاهيم، وكاد أن يتداعى عمود الشعر العربي وسط ضوضاء الحداثيين، ودعواهم أن الوزن إنما هو من مخلفات المستنقعات التراثية العفنة، التي عفّى عليها زمان الحداثة والمستقبل، وأن الإيقاع، والإيقاع وحده، هو قوام موسيقى الشعر الحديث.

فما هو هذا الإيقاع عند هؤلاء الحداثيين؟ وما هي مميزاته الفنية عندهم؟ وما هي خصائصه الموسيقية الشعرية التي تميزه من أوزان الشعر العمودي؟

في المقالة الثامنة محاولةٌ مقتضبة للإجابة عن هذه الأسئلة وأشباهها، من أجل التعرف على مفهوم موسيقى الشعر في النظرية الحداثية.

فإلى الأسبوع المقبل، إن شاء الله.

مقالات في ‘موسيقى الشعر’ (8)

قوام الشعر بين قانون الوزن وفوضى الإيقاع

د. عبد العالي مجدوب / majdoub_Abdelali@yahoo.fr

اختلاط المفاهيم وتميّع حدود المصطلحات

“إن العبقرية والمقدرة لا تظهران إلا إذا خضع الإنسان للقوانين الطبيعية أو القواعد الوضعية. فإذا فاز، وقد ألقيت عليه تلك القيود، فمن الحق أن يقال فيه، بعد ذلك، عبقري أو مقتدر. أما إذا تُرك الإنسان يفعل ما يشاء في الوقت الذي يشاء، ومن غير حدود في المكان والزمان، ثم جعل هو من نفسه حكما على نفسه، فإن لكل إنسان الحق، حينئذ، في أن يدّعي العبقرية والمقدرة.”)هذا الشعر الحديث، للدكتور عمر فرّوخ، ص173)

حينما نتعمد هدم الحدود القائمة بين مفاهيم المصطلحات، فذلك يعني تعمّد الإساءة إلى نظام الحياة، والاستهانة بالمنطق الإنساني، الذي قضى، وسيقضي دائما، على الرغم من دعاة الهدم والفوضى والعبث، بأن هناك حدودا مفهومية تخص استعمال كل كلمة، سواء في اللغة أو في الاصطلاح.

“إن اللغة، التي هي محصول الذهن الإنساني عبر عشرات القرون، لا تضع الأسماء اعتباطا ولا عبثا، وإنما هناك مفهوم فلسفي عام يكمن وراء كل تعريف وتسمية في كل لغة.”(قضايا الشعر المعاصر، لنازك الملائكة، ص220)

وماذا يمكن أن تجني الإنسانية عامة، وآداباها بصفة خاصة، من هذه المذاهب العبثية الهدّامة، التي ليس في قاموسها إلا لغة الرفض، والسلب، والتجاوز، والقطيعة، وما إلى هذه الألفاظ في لغة العبث واللامعقول- ماذا يمكن أن تجني الإنسانية من هذه المذاهب غير الفوضى والانحطاط والتفاهة وغيرها من النتائج السلبية التي تخرج الإنسان من إنسانيته، وتفرض عليه، بالوهم المغرق في الوهم، الموشّى بشعارات المعرفة الحداثية، أن يعطّل جميع حواسه من أجل معرفة هي اللامعرفة، وعقل هو اللاعقل، ومستقبل هو اللامستقبل، وغاية هي اللاغاية، ومعنى هو اللامعنى، وأفق إنساني هو اللاأفق، وحرية هي اللاحرية- في جملة، من أجل شيء هو اللاشيء.

فمذاهب العبث والهزل “لا تتحدث بشيء غير الهدم والإلغاء: فلا لون، ولا شبه، ولا رسم، ولا قاعدة في التصوير، ولا لفظ، ولا معنى، ولا منطق، ولا مدلول في الشعر والنثر. وإنه لمن حسن الحظ أن تقصى هذه الدعوى عن الفنون التي ترتبط بها ضرورات المعيشة والاجتماع، فإنها لو تناولتها لسمعنا بفن المعمار الذي لا حجرات، ولا جدران، ولا حجارة، ولا طلاء فيه، وسمعنا بمجامع الموسيقى التي لا تميز بين الضوضاء والألحان، ولا محل فيها للمعازف والآلات.”(اللغة الشاعرة، لعباس محمود العقاد، ص173)

وما أجمل هذا الاحتجاج اللطيف من الأستاذ العقاد ! فقد جمع بين المنطق الرصين والسخرية التي تفارقها رزانة العقل.

ومهما كانت الدواعي والشعارات، فإن الدعوة إلى نقض مفاهيم اللغة التي تعارفتها أمة، بمختلف شعوبها، على طول تاريخ يعدّ بعشرات القرون، إن لم يكن أكثر، إنما هي، في أبسط غاياتها وأوضع معانيها، دعوةٌ إلى التقاطع، والتدابر، واللاتواصل، أي دعوة إلى موت اجتماعي وحضاري محتّم.

فما معنى أن يصطلح الناس طوال قرون ذوات العدد على أن الأبيض هو الأبيض، ويأتي آحاد الناس، في زاوية من الزمان، ليقولوا: لا، إنما الأبيض هو الأسود، ثم يتبعه ثالث، فيقول: لا، إنما الأبيض هو الأصفر، وهكذا في دوّامة من اختلاط المفاهيم لا تنتهي إلى طائل، بل تنتهي، حتما، إلى التضارب، والتنافر، والتباعد، واللاتفاهم.

فمعاني الكلمات، في اللغة، إنما تثبت بالاصطلاح، أي بالاتفاق، ثم تدوم وتترسخ بالتداول والاستعمال. وعلى هذا الأصل تجري الاصطلاحات العلمة والفنية، ومنها اصطلاحات فن الشعر، واصطلاحات علم أوزان الشعر، أي علم العروض.

فحينما يصبح كل واحد حرا في استعمال الكلمات والاصطلاحات بالمعاني التي يريدها هو، لا المعاني الاصطلاحية التي يتفاهم بها الناس ويتواصلون، فذلك يعني، حينئذ، أننا قد وصلنا إلى قمة العبث، والفوضى، واللاتواصل.

فمثلا، حينما يصبح الشعر نثرا، والنثر شعرا، من غير اعتبار للفوارق الأساسية بين الفنين، وحينما يصبح الحديث عن الوزن حديثا إنشائيا لا يعترف بالقواعد والحدود والضوابط والمفاهيم المميزة للأشياء والمعاني بعضها من بعض، وحينما يصبح الاحتجاج لمثل هذه الفوضى في استعمال مفردات اللغة واصطلاحات الفنون والعلوم قائما، أساسا، على التخييل الجامح، والوهم البعيد، والتصورات والآراء العبثية اللامعقولة- حينما يقع مثل هذا، فإن كل شيء يصبح مباحا.

إذن، أين هي المسؤولية الإنسانية؟ أين هي مسؤولية الكلمة؟ أين هو احترام حق الإنسان، وكرامته، وعقله، وعواطفه، ومشاعره؟

ولم تكن الأديبة الناقدة نازك الملائكة مبالغة حين حكمت بأن مثل هذه المحاولات العبثية . وقد جاء كلامها هذا في سياق نقدها لبدعة “قصيدة النثر”، كما مرّ بنا في مقالة سابقة- “تكاد تكون تحقيرا للذهن الإنساني، الذي يحب بطبعه تصنيف الأشياء وترتيبها. فإذا أطلقنا اسما واحدا على شيئين مختلفين تمام الاختلاف، فما وظيفة الذهن الإنساني؟”(قضايا الشعر المعاصر، ص221)

وتضيف الأديبة قائلة، دائما في سياق “مناقشتها اللغوية” لدعوى “قصيدة النثر”: “فلعلنا نستطيع أن نلاحظ كلنا أن تسميتنا للنثر “شعرا” هي، في حقيقة الأمر، كذبة لها كل ما للكذب من زيف وشناعة، وعليها أن تجابه كل ما يجابهه الكذب من نتائج. والكذبة اللغوية لا تختلف عن الكذبة الأخلاقية إلا في المظهر.”(نفسه)

وتستطرد في مناقشتها قائلة: “واللغة الإنسانية، كل لغة، هي الصدق في أنقى معانيه وأسماها. إنها واقعية، لأنها تسمي الأشياء بأسمائها الحقة، فلا تخون ولا تكذب ولا تزيف(& ) والنثر يسمى في اللغة نثرا، لأن اسمه هذا يعطينا صفة النثر، كما أن الشعر يسمى شعرا ليعطينا صفة الشعر. وهذا الصدق المطلق في اللغة يكسبها ثقتنا وإجلالنا. وهو، أيضا، يحمينا نحن الذين نتكلم هذه اللغة من أن نكذب& “(نفسه)

وكذلك علم أوزان الشعر(علم العروض)، وإن كان، في أصل وضعه، قائما على الاجتهاد البشري، كما هي مفردات اللغة في أصل وضعها، فهو علم له أصوله ومصطلحاته التي ثبتت له عبر قرون من التدارس والتداول، وبناء على هذا، فلا يمكن لأي كان أن يفرض استعمال هذه المصطلحات بغير المعاني التي ترسخت عبر الأجيال الطويلة المتلاحقة. وإلا، فإن الجوهر الاصطلاحي اللازم في مختلف عمليات التفاهم والتبليغ سيسقط، وسنصبح، حينئذ، بإزاء مفردات لغوية عارية من أي مدلول اصطلاحي متميز.

يحسن هنا التذكير بأن بناء الشعر العربي ذو طبيعة هندسية رياضية كما تقدم سواء كان ذلك في سياق توقيفية اللغة العربية أو الغائية التي قادت تطورها.

فَـ”التفعيلة”، في الاصطلاح العروضي، هي جزء من مكونات البحر في الوزن الشعري. و”الشطر” هو نصف البيت الشعري، و”القصيدة” عبارة عن مجموعة أبيات. وهكذا إلى آخر ما هناك من الاصطلاحات التي لها مفاهيم معروفة ومحفوظة خلال زمان طويل.

وما على الحداثي المجدد إلا أن يبحث لأفكاره وتصوراته ومفاهيمه “الثورية” “الرفضية” “الهدمية” عن اصطلاحات جديدة. أليس من مبادئهم الجوهرية أن الأشكال تتبدل بتبدل المعاني والأغراض والتصورات؟

فلماذا استثناء الاصطلاحات القديمة من هذا المبدأ؟ لماذا السطو على هذه الاصطلاحات ومحاولة فرض استعمالها بحمولة مفاهيمية مخترعة، هي غير الحمولة المعروفة بين الناس؟ وهل هناك من غاية وراء مثل هذا الفعل العبثي غير الفوضى من غير نظام بديل، والهدم من غير بناء جديد؟

وإلى المقالة التاسعة والأخيرة، إن شاء الله، حول عبثية “الإيقاع” في النقد الحداثي

غاب عن هذه المقالة البعد الفكري الذي تنطلق منه الحداثة والذي لا يعدو هدمه لثوابت الشعر أن يكونمثالا لما يسعى إليه من هدم ما هو أعمق واخطر أقصد كافة ثوابت الأمة.

قالات في ‘موسيقى الشعر’: المقالة التاسعة والأخيرة

عبثية “الإيقاع” في النقد الحداثي

إن من مميزات النظرية الحداثية الشعرية، وخاصة في صورتها الإديولوجية العنفية، كما تمثلها المدرسة الأدونيسية- نسبة إلى أدونيس، علي أحمد سعيد، الحداثي المشهور والمرشح العربي لجائزة نوبل للآداب- أنها تعتبر الوزن، بمفهومه العمودي، من مخلفات الماضي التي لم يعد لها وجود إلا في معتقدات “الإرثيين”، الذين لا وجهة لزمانهم إلا الماضي بكل أصوله، وقواعده، ونماذجه، ومحفوظاته، وأشيائه المقدسة.

فعند هؤلاء الحداثيين “أنه ليس من جوهر الشعر، في المفهوم الحديث، أن يحفظ أو يطرب، أو أن يكون موجزا أو موزونا، أو محددا بالأنواع الشعرية القديمة& “(الشعر العربي ومشكلة التجديد، لأدونيس، في مجلة “شعر”،(م.س)، ص96)

فالشعر، عندهم، لا يمكن تمييزه، لا بوزن ولا بغيره من الخصائص والصفات والحدود. “ليس هناك وجود قائم بذاته نسميه الشعر، ونستمد منه المقاييس والقيمة الشعرية الثابتة المطلقة. ليس هناك، بالتالي، خصائص أو قواعد تحدد الشعر، ماهية وشكلا، تحديدا ثابت مطلقا.”(مقدمة للشعر العربي، لأدونيس، ص107)

“إن تحديد الشعر بالوزن تحديد خارجي، سطحي، قد يناقض الشعر.”(نفسه، ص112) فَـ”لا يجوز إذن أن يكون التمييز بين الشعر والنثر خاضعا للوزن والقافية، فمثل هذا التمييز شكلي لا جوهري.”(نفسه، ص113)

وإذا كان الوزن الشعري، بخاصيته العددية الكمية، كما مر بنا في مقالة سابقة، ركنا في مفهوم الشعر- وليس هو كلّ الشعر- عبر قرون وأجيال، فإن “الإيقاع”، والإيقاع وحده، هو المعتبر وحده في موسيقى الشعر، عند الحداثيين.

وبناء على مفهومهم هم للإيقاع، أمكنهم أن يسلكوا التجارب النثرية في عداد التجارب الشعرية، وأن يكسروا الفوراق التي ظلت منذ عدة قرون تميز الشعر من النثر، وعلى رأسها فارق الوزن.

وترجع حجتهم، دائما، فيما يصنعون ويخترعون ويكسرون، أن الأمر حداثة، والحداثة من مميزاتها الأساس القطع مع الماضي، بلغته ومفاهيمه واصطلاحاته.

فالإيقاع في المفهوم الموسيقي الشعري عند أهل الصنعة والاختصاص، لا ينفك عن التساوي، والحساب، والكم، والطول، وغيرها من القواعد والضوابط التي هي ضرورية في كل فن له شأن واعتبار.

قال أبو نصر الفارابي في كتاب الموسيقى الكبير: “الإيقاع هو النقلة على النغم في أزمنة محدودة المقادير والنسب.”(ج2/ص436)

“الإيقاع هو نظم أزمنة الانتقال على النغم في أجناس وطرائق موزونة تربط أجزاء اللحن، ويتعين بها مواضع الضغط واللين في مقاطع الأصوات.”(نفسه، هامش رقم1)

فالإيقاع، في مفهومه الموسيقي الاصطلاحي، كما نلاحظ، لا ينفك عن قاعدة الحساب والتناسب، أي لا ينفك عن الوزن. بل إن الإيقاع والوزن شيئان متلازمان، ينتميان معا إلى صناعة الأصوات والألحان، وهي صناعة تقوم على قواعد الكم والطول وحساب الأجزاء، أنغاما في صنعة الموسيقى، ومتحركاتٍ وسواكنَ في صنعة الشعر.

وقد سئل ابن(خرداذبه)-وكان من أشهر علماء عصره في تاريخ الغناء- عن منزلة الإيقاع من الغناء، فأجاب بحكاية قول المتقدمين: “إن منزلة الإيقاع من الغناء بمنزلة العروض من الشعر”، إلى أن قال: “والإيقاع هو الوزن، ومعنى أوقع: وزن، ولم يوقع: خرج من الوزن، والخروج إبطاء عن الوزن أو سرعة& “(عن كتاب “أبو الفرج الأ صبهاني وكتابه الأغاني”، لمحمد عبد الجوّاد الأصمعي).

فهذه شهادة من عالم مختص تؤكد ارتباط الإيقاع بالوزن إلى حدّ التطابق. فأين الحداثيون من كل هذه التعريفات والمفاهيم الاصطلاحية؟

أولا- كل هذه المفاهيم والتعريفات، عندهم، تراث، لا يعتد به في فهم الشعر وتقويمه، ولذلك فهم يستعملون لفظة إيقاع مجردة عن كل معانيها الموسيقية التي تفيد الوزن، أي الكم والحساب.

وثانيا- لا جامع بينهم، في استعمال هذه اللفظة(الإيقاع)، إلا جامع رفض الوزن العمودي، الكمي العددي. وما عدا هذا الجامع، فهم طرائق شتى، ليس بينهم أي نوع من الاتفاق فيما يخص مفهوم الكلمة وحدود معناها الاصطلاحي. ولذلك، يغلب في السياقات التي يرد فيها استعمال كلمة “إيقاع” في كتاباتهم طابع التعبير الذاتي الانطباعي العاطفي الحماسي. وتبرز حدة هذا الطابع عند حديثهم عن “الإيقاع الداخلي”، حيث يصبح مفهوم الإيقاع متعددا بتعدد الأشخاص والأذواق والانطباعات، وهو ما يعني غياب أي شكل من أشكال التعريف، أو التحديد، أو التمييز، أي تكريس مبدأ “اللاتحدد”، و”اللاتعريف”، عمادِ الفلسفة الحداثية الإديولوجية الرفضية العبثية. فـ”الإيقاع الداخلي” عبارة مبهمة وعامة، يبقى تفسيرها لدى الشعراء والنقاد الحداثيين مرهونا بالرؤى الفردية الذاتية، وكذلك الأذواق التي تتغير من شخص لآخر.(انظر “حركية الحداثة في الشعر العربي المعاصر”، للدكتور ما خير بك، ص296، هامش رقم(44))

وهذه بعض الأمثلة من هذه العبارات الإنشائية الذاتية “الإديولوجية” الهاربة، في موضوع الإيقاع. وسأضع سطرا تحت العبارات المغرقة في الرومانسية الإنشائية الهروبية.

تقول خالدة سعيد: “الإيقاع، بالمعنى العميق، لغة ثانية لا تفهمها الأذن وحدها، وإنما يفهمها، قبل الأذن والحواس، الوعي الحاضر والغائب(& )

“الإيقاع لغة، بل هو سابق للغة المصطلح على تسميتها كذلك. إنه ما قبل المصطلحات& “(حركية الإبداع، ص111)

“إن فكرة حصر الإيقاعات خاطئة من أساسها، وتنطلق من فهم في غاية التحديد لطبيعة الإيقاع. فهو ليس سواكن ومتحركات معدودة(& ) لكنه كالحياة الواسعة بكل ما فيها من صخب، وزخم، وحركة، وألوان، وأصوات& “(“القصيدة الحرّة ، معضلاتها الفنية وشرعيتها التراثية”، لمحيي الدين اللاذقاني، في مجلة “فصول”، العدد الخاص بِـ”الأفق الأدونيسي”، المجلد16، العدد1، صيف1997، ص43.)

“إن الوزن ليس إلا مجرد هيكل، أما الإيقاع فروح تسري في النص، وتعتمد على النشاط النفسي للمبدع والمتلقي على السواء.”(نفسه، ص44)

“الوزن تشكيل واحد له طول محدد، وأنغام محفوظة، أما الإيقاع فمجموعة من التشكيلات المتداخلة التي تتغير بتغير المناخ النفسي& “(نفسه، ص45)

“الإيقاع الداخلي& يشبه الصدى البعيد& فهو ينبع من النفس، ويصطدم بالعالم الخارجي، فيعود محملا بشحنة إضافية تحمل صفاته الأولى بتركيب جديد.”(نفسه)

“الإيقاع فطرة، حركة غير محدودة. حياة لا تتناهى.”(زمن الشعر، لأدونيس، ص164)

“في قصيدة النثر& موسيقى، لكنها ليست موسيقى الخضوع للإيقاعات القديمة. بل هي موسيقى لإيقاع تجاربنا وحياتنا الجديدة، وهو إيقاع يتجدد كل لحظة.”(مقدمة للشعر العربي، لأدونيس، ص116)

الملاحظ، من هذه الأمثلة، أن مفهوم الإيقاع عند الحداثيين لا علاقة له بالوزن، في صميم خاصيته العددية الكمية، فضلا عن كونه مفهوما لا يني يسبح في الكلام الفضفاض، والتصورات الإنشائية العامة، وهو الأمر الذي انتهى بالتجربة الشعرية الحداثية عموما، إلى نوع من الفوضى واختلاط الحدود وكثرة النثر الذي ينشر باسم الشعر. وليس مطلبنا في هذه المقالة التحقيق في هذا الموضوع، وإلا لسقت الأمثلة الكثيرة التي يضيق عنه الإحصاء.

هذا، وليس صحيحا أن القدامى لم يكن لهم اعتناء بالإيقاع، كما يزعم بعض الدارسين، كالدكتور عز الدين إسماعيل، في “الشعر العربي المعاصر”(ص52-53)، بل إن الإيقاع كان عندهم جزءا لا يتجزأ من الوزن، ولذلك كانت عناية النقاد الواسعة بجرس الكلمات وأثره في النفس، ودراسة خصائص الأصوات وفصاحتها، وحلاوتها، وسلاستها، والنظر إلى أسباب تآلفها وتنافرها في الكلام، إلى غير ذلك من الموضوعات المتعلقة بإيقاع المفردات اللغوية، سواء في الشعر أو في النثر، كالجناس، والطباق، والرنين، والتكرار، والسجع، والتقسيم، والترصيع& إلخ. ويمكن الاطلاع على هذه الموضوعات، في شيء من التفصيل، في الجزء الثاني من كتاب “المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها”، للدكتور عبد الله الطيب، وقد خصصه للكلام “في الجرس اللفظي”.

ألم يقل ابن خلدون، في سياق حديثه عن صناعة الغناء، إن خاصية الكم والتناسب في الوزن الشعري ما هي إلا “قطرة من بحر من تناسب الأصوات كما هو معروف في كتب الموسيقى.”؟(المقدمة، ص338)

وهذا يعني أن الإيقاع الشعري، بكل أبعاده اللغوية والصوتية، والعاطفية، والنفسانية، قد كان حاضرا بقوة في تجارب الشعراء.

وقد أورد الدكتور عبد الله الطيب، في الجزء الثاني من “مرشده” المشار إليه آنفا، أمثلة غنية من أشعار لشعراء كبار، كالمتنبي، والبحتري، والمعري، وأبي تمام.

وبعد، فإنني أكرر في ختام هذه المقالة ما قاله عباس محمود العقاد عن المجددين، في عصره، من أنه “لن يستمع لهم أحد فيما يتغنون به من حديث الشعر بلا وزن ولا قافية، لأن حجتهم فيه هزيلة مملولة, وما عهدنا في التاريخ القديم أو الحديث أن الأمم تبني أركان ثقافتها عشرات القرون، ثم تهدمها آخر الأمر بهذه السهولة، بغير حجة معقولة أو غير معقولة.”(يوميات العقاد: 2/347. (عن “حركة النقد الحديث والمعاصر في الشعر العربي”، للدكتور إبراهيم الحاوي)

وماذا كانت ستكون مقالة العقاد لو عاش إلى زمان الحداثية الثورية العنفية الهدمية العبثية، زمان الدعوة إلى شعر قوامه اللاوزن واللاقافية واللامعنى؟

فمهما قال الحداثيون وأعادوا في الإيقاع، ومهما حاولوا التهرب من أن ينضبطوا لمفاهيم المصطلحات الفنية، ومعاني مفردات اللغة، ومهما حلقوا مع انطباعاتهم، وابتعدوا بإديولوجيتهم الهدمية العبثية عن منطق الواقع، وهو منطق القواعد والقوانين والحدود، منطق الكم والحساب والامتحان- مهما فعلوا، فإنه، ما دام في الدنيا فن اسمه الشعر، سيظل هناك شيء “اسمه الوزن، وهو يفرض عليهم نفسه مهما تجاهلوه.”(قضايا الشعر المعاصر، لنازك الملائكة، ص227)

“ولسوف يبقى الناثرون حيث كانوا مع الناثرين.”(نفسه، ص222)

“إنه لا شعر بغير فن، ولا فن بغير قاعدة& “(ديوان العقاد، ص7)

إن الشعر ملكة “من رُزقها قال وتغنى وأفهم وأثر، ومن لم يرزقها فلا حق له في قول الشعر، ولا في القول فيه، ولأن يسكت فلا يقول شعرا ولا يقول عن شعر خيرٌ له وللناس، وخيرٌ للشعر والفن وللعقول والأسماع.”(نفسه، ص12)

وليس يصح في الأفهام شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليل

" وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ " صدق الله العظيم.